ذاكرة

أم كلثوم: وجوه متعددة لسيدة الغناء العربي

أم كلثوم” الموهبة الغنائية الفذّة، المولودة عام 1908، ذات الحضور الطاغي والعنيد، والملامح الجسورة التي تضجّ بالحماسة والانفعالات، تخترقها حنجرة قوية، تبعث طاقة فنية قوية، وصوتاً هادراً. حصدت ألقاباً عديدة، عنيت جميعها بفرادتها الفنية، ووضعها في مكانة أسطورية، في الصوت والنغم والطرب، وعدّتها النموذج والمرجعية، التي يقاس عليها.

استبدّت جماليات صوتها وعناصره الفنية المتميزة، بقلوب مريديها، فعبرت أجيالاً وعواصم عربية، وتجاوز الإجماع عليها تباين الأفكار والخلافات السياسية، والانتماء الطبقيّ، فها هو حضورها الاستثنائي ما يزال صامداً في مواجهة الزمن وعوامل التغيير.

أكثر من وجه لـ “كوكب الشرق”

“مذكرات الآنسة أم كلثوم” كتاب للصحافي المصري، محمد شعير، صدر عن دار أخبار اليوم، بالتزامن مع الذكرى الـ 43 لرحيل أم كلثوم، التي صادف مرورها الشهر الماضي، أضاء الكاتب من خلاله على عدة مناطق في مسيرة “ثومة”، غير التقليدية والمجهولة لدى كثيرين؛ حيث ظلّت متوارية، في أرشيف دوريات الصحف والمجلات وذاكرة الورق الأصفر.

ينفرد الكتاب بأربع وثائق، جمعها المؤلف من دوريات ثقافية مختلفة، خلال القرن الماضي، من بينها مجلة “آخر ساعة”؛ أقدم إصدارات مؤسسة “أخبار اليوم”.

وتكشف تلك الوثائق أكثر من وجه لسيدة الغناء العربي، وطرائفها كذلك، إضافة إلى المذكّرات التي نشرتها عام 1937، وفصول المعركة القانونية، التي دارت بينها والشيخ زكريا أحمد، وعلاقتها بالعديد من النخبة المصرية، في السياسة والفنّ والصحافة، مثل: أحمد حسنين باشا، والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومصطفى أمين، والشاعر أحمد رامي، وحوارها الصحافي مع محمد حسنين هيكل.
“ثومة” الصحافية

يقول شعير في مقدّمة كتابه: “كان هناك عدد كبير من المطربين والمطربات الذين يحظون بشعبية هائلة، وهي (يقصد أم كلثوم)، لم تكن سوى فتاة ريفية، لا تملك إلّا حنجرتها وموهبتها، غير المحدودة، وذكاءً فطريّاً مكّنها من أن تحدّد هدفها”.

ولم يكن من المعروف عن أمّ كلثوم، شغفها بالصحافة ومتابعتها الذكية لها، ودعمها للصحافة الوطنية؛ حيث كانت، في بداياتها الفنية، كما يورد شعير، تغضب من الجرائد المصرية التي يتحكّم فيها غير المصريين، وأنّها تضطر للإعلان عن حفلاتها في جرائد يدير إعلاناتها أجانب؛ بل شجّعت الصحافي المصري، محمد التابعي، على إصدار مجلة “آخر ساعة”، وعند صدورها المقرّر في تموز (يوليو) 1934، اتصلت تطلب العدد قبل طرحه للبيع؛ إذ كانت عازمة على السفر إلى باريس، ولم تنتظر أن يرسل لها إياه بالبريد.

ساهمت أم كلثوم في صدور جريدة أخبار اليوم، الدار والجريدة، حيث تبرّعت بـ 18 ألف جنيه، وهو رقم ضخم ويعادل الملايين اليوم، وطلبت من مؤسسها، الكاتب الصحافي، مصطفى أمين، أن يظلّ الأمر سرّاً بينهما، لكنّ الأخير جهر بالأمر، وهو ما أغضبها؛ حيث خشيت أن يطالبها أصدقاؤها بالتبرع لجريداتهم.

امتلكت الستّ قدرات ذهنية وبلاغة وسرعة بديهة، ما أهّلها لتكون صحافية بارعة، يشار لها بالبنان، توقّع باسم ثومة

ويذكر شعير، أنّها كانت تفرح عندما تجد أخبارها الفنية، وإعلان حفلاتها منشورة، في جرائد مصرية مغمورة، عن أن تمتدحها جريدة “المقطّم”، التابعة للاحتلال الإنجليزي، كما تناوبت “ثومة” على كتابة مقالات الرأي، بين الحين والآخر؛ فهي تمتلك أرشيفاً صحافياً إلى جانب رصيدها الغنائي.

في مقال لها، نشر في مجلة “الهلال”، بتاريخ كانون الثاني (يناير) 1948، وصفت أم كلثوم الشاعر أحمد رامي، بكلمات دقيقة، وبلاغة مقتصدة، فكتبت: “مجموعة روحانية من الإحساس الملهم، والثورة العميقة المكبوتة، والهدوء الرزين، مع ظرفٍ نادرٍ، وخيالٍ محلّقٍ، وخاطرٍ سريعٍ، وإخلاصٍ لذات الإخلاص، ذلك هو “رامي”، شاعر الشباب، والفنان الذي جدّد شباب الأغنية المصرية”.

وعبّرت في مقالها عن تقدير عميق، وافتنان ملفت بالشاعر وإنتاجه الأدبي، وأنّ رامي يحتلّ بقصائده مكانة خاصة لديها.

وتحدّثت في المقال عن لقائهما الأول في حفل غنائي، بحديقة الأزبكية؛ حيث حضر لسماعها بعد عودته من باريس، التي كان مقيماً فيها لمدة عامين، وتقدم لتهنئتها، بعدما أنهت الفصل الأول من غنائها، وطلب منها غناء قصيدته، فاستجابت له.

وهي القصيدة نفسها، التي أطلعها عليها الشيخ أبو علا محمد، فلم تنقطع من لحظتها صداقتها بـ “رامي”، وشغفها بنظمه الشعر:

الصبّ تفضحه عيونه

وتنمّ من وجد شجونه

إنّا تكتمنا الهوى

والداء أقتله دفينه

شهادة مصطفى أمين

“امتلكت “الستّ” قدرات ذهنية وبلاغة وسرعة بديهة، ما أهّلها لتكون صحافية بارعة، يشار لها بالبنان، لكن لأنّ مصر فيها آلاف الصحافيين، وأم كلثوم واحدة، فقد تفرّغت في قلوب كلّ عشاق صوتها” يقول مصطفى أمين عن ثومة.

ويستطرد أمين: “هي واحدة من أساطين الكتابة الصحافية، وهذا وجه غير معروف، فقد مارست الصحافة، بين الحين والآخر، لدعم أصدقائها وأصحاب المجلات وتحديداً المصريين منهم.

ومن الطرائف التي مرّت عليها الوثائق بالكتاب، هي تلك القصة التي كان طرفاها أم كلثوم ومصطفى أمين، في أحد المطاعم المشهورة بالولايات المتحدة؛ حيث اختارت “قيثارة الشرق”، الأصناف الغالية من الطعام، وعندما جاء وقت دفع الفاتورة، لم يجد أمين حافظة نقوده، ورفضت محاولاته للتصرّف، في أن يعود للفندق ليحضر المال، أو تقرضه هي النقود، وبرّرت أم كلثوم، التي دبّرت “المقلب”، الاقتراح الأول، بخشيتها من ألّا يعود، وقالت إنّها اكتشفت أنّها نسيت أموالها.

وبدأت منذ تلك اللحظة، كما يروي أمين، تصوغ عناوين صحافية، باحترافٍ وسخريةٍ شديدين، حول تلك الحادثة، وتصقل “مانشيتات” مثيرة، حول وقائع القبض على أم كلثوم ومصطفى أمين؛ لأنّهما حاولا أن ينصبا على مطعم كبير في أمريكا.

أم كلثوم وثورة يوليو

يشير صاحب كتابات “نوبة الحراسة”، إلى بدايات علاقة أم كلثوم بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وثورة 23 تموز (يوليو) 1952، التي شكّلتها ملابسات وأخذت منحنيات متفاوتة، وتدخّلت فيها ظروف واعتبارات متعددة؛ فقد بدأ تعارفهما الأول، عام 1948، أثناء حرب فلسطين، عندما طلب الضباط المحاصرون، في مدينة الفالوجا، أن تغنّي لهم، فاستجابت بالفعل واستقبلتهم في بيتها.

وفي المقابل، يوضح شعير، أنّ ذلك الموقف المتناقض من أم كلثوم، بين عبد الناصر وسيد قطب، إبان ثورة يوليو؛ حيث طلب الأخير محاكمتها؛ لأنّها غنّت للملك، وقرّر الضابط المشرف على الإذاعة وقف أغانيها، وطردها من منصب “نقيب الموسيقيين”، فيما تسبّب ذلك بغضب عبد الناصر.

وتوثّق أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة، رأي عبد الناصر من ذلك الموقف المتعسّف؛ وحديثه للضابط المشرف على الإذاعة، وصاحب قرار وقف أغاني أم كلثوم، قائلاً له: “ما رأيك أن تهدموا الهرم الأكبر لأنّه من العهد القديم؟!”.
مصدر: حفريات كريم شفيق بتصرف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى