حول العالمميديا و أونلاين

«إذا هبّت رياحك فاغتنمها».. هكذا استثمرت تركيا مقتل خاشقجي لتخرج بأكبر المكاسب (مع فيديو)

مثلت أزمة مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي تحديًا كبيرًا للساسة الأتراك، سيما أنها جاءت في وقت تعاني فيه تركيا من أزمات اقتصادية وسياسية أخرى من شأنها أن تحجم من خيارات أنقرة، لكن تركيا، وبرأي الكثيرين، تمكنت من إدارة الأزمة إدارة احترافية تجنبت فيها الكثير من الخسائر، وحصدت العديد من المكاسب، وهو ما نستعرض بعضه في السطور التالية.



«هيبة» الأمن التركي موضع اختبار

الانطباع الأول الذي قفز إلى أذهان الكثيرين فور تواتر نبأ اختفاء جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، ومن ثم تأكد أنباء مقتله، أن تركيا ليست بلدًا آمنًا، سيما للمعارضين العرب الذين صارت إسطنبول منفى اختياريًا للكثيرين منهم ، وما قد يعزز هذا ما أثير من تسريبات حول محاولة خاشقجي الحصول على الأوراق الرسمية التي احتاجها من سفارة بلاده في الولايات المتحدة، غير أنه قد طلب منه الحصول عليها من قنصلية إسطنبول، الأمر الذي يعني ببساطة أن القاتلين ربما رأوا في إسطنبول ميدانًا «رخوًا» يمكنهم فيها تنفيذ جريمتهم والنجاة بسلام.

هذا الأمر تناولته صحيفة ” واشنطن بوست” في تقرير لها، أشار إلى أن الخوف والرعب صارا مسيطرين على المعارضين العرب في إسطنبول، حيث ساد الاعتقاد أنه إذا عزم نظام عربي على فعل شئ ضدهم فلن يردعه رادع، وبحسب الصحيفة فإن العديد من المنفيين العرب باتو يعتقدون أن سلامتهم مرهونة بمحاسبة السعودية على مقتل خاشقجي، هذا فضلًا عما تثيره تلك الجريمة من إضرار بصورة تركيا، وأجهزتها الأمنية، وما قد يجره من تأثيرات سلبية على حركة السياحة فيها.
لكن يمكن القول إن هذه الصورة قد عدلتها – جزئيًا على الأقل – الإدارة التركية «الاستخباراتية» للملف، حيث بدا جليًا فعالية الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في التعامل مع القضية، بدءًا من الإدراك المبكِّر لمصير خاشقجي، وتسريب خبر وفاته لوسائل الإعلام، في الوقت الذي كان التصور السائد أن الأمر محض احتجاز داخل القنصلية أو تهريب إلى المملكة.

https://www.youtube.com/watch?v=eFGL4nMJchs

 

وفضلاً عن ذلك، فقد ظهر جليًا أن لدى الأجهزة الأمنية التركية تصورًا قريبًا للغاية من واقع ما حدث لخاشقجي، بدءًا من «كتيبة الإعدام» السعودية التي قدمت إلى اسطنبول خصيصًا يوم العملية، وسرب الأتراك صورهم وبياناتهم الشخصية للإعلام منذ الأيام الأولى للحادثة، فضلًا عن تفاصيل تحركات هذا الفريق، وكل ذلك كان موثقًا بالصور التي جرى توزيعها على وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بالتدريج، وبطريقة تضمن أوسع قدر من الانتشار، وإبقاء العنصر «الدرامي» في سرد تفاصيل ما حدث إلى أطول فترة ممكنة.

نجاح أجهزة الأمن والاستخبارات في تركيا في كشف جريمة القتل مبكرًا، ثمَّ نجاحها في «إدارة المشهد الإعلامي» بعد ذلك، وتكثيف الضغوط على السعوديين بشكل دفعهم إلى الاعتراف تدريجيًا بصحة الرواية التركية، ثم ما يُشاع عن امتلاك الاستخبارات التركية تسجيلات توثق مقتل خاشقجي بالصوت (وربما بالصورة أيضًا) أطلعت عليها مديرة «الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)» جينا هاسبل أثناء زيارتها إلى تركيا الأسبوع الماضي، كل ذلك وفر بعضًا من «الهيبة» للدولة التركية وأجهزة الأمن والمعلومات فيها بعدما هددت الجريمة بالإضرار البالغ بصورتها

«حشر» خصم لدود في الزاوية

قبل أزمة خاشقجي، وقفت كل من تركيا والسعودية على طرفي نقيض في صراع الزعامات في المنطقة، ففي حين مثل نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الداعم الرئيس لجماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمين، كان محمد بن سلمان يجرُّ المملكة في تحالف ثلاثي مع أبو ظبي والقاهرة لمحاربة الإسلام السياسي واجتثاثه تمامًا، كما قاد هذا الثلاثي حصارًا على قطر، الحليف الوثيق لأردوغان، وهي الخطوة التي رفضتها أنقرة تمامًا وسعت لمحاربتها بكل السبل بما في ذلك إرسال قوات عسكرية للدفاع عن قطر في بداية الأزمة.

مثلت أزمة خاشقجي فرصة سانحة لتركيا لتوجيه ضربة إلى «النقطة الأضعف» في التحالف الرباعي، ولي العهد السعودي الذي ما فتئ يتعرض لانتقادات بسبب حربه المدمرة في اليمن، وحصار قطار، وغير ذلك من السياسات العنيفة، مثلت الإدارة الأمنية-الإعلامية للأزمة، القائمة على تسريب تفاصيل عملية الاغتيال وكواليسها بشكل بطيء وتدريجي، وضمان توزيعها على أكبر قدر من الوسائل الإعلامية المحلية والأجنبية فلا تُختص بها وسيلة دون غيرها، كل ذلك ساهم – بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» ساهم في جذب أكبر قدر من الانتباه العالمي نحو السياسات «المتهورة» التي تتبعها المملكة تحت قيادة بن سلمان
. يمكن القول إنه – وحتى هذه اللحظة على الأقل – فتلك الاستراتيجية قد نجحت إلى حد كبير، إذ تحاول السعودية حتى الآن «استرضاء» الأتراك في محاولة لإيجاد مخرج هادئ يحفظ ماء الوجه في تلك القضية وتشير تقارير إلى رفض أردوغان عرضًا سعوديًا لإغلاق القضية في مقابل حزمة مساعدات مالية ورفع الحصار عن قطر، وهو ما يؤشر إلى تراجع سعودي ظهر إلى العلن مع خروج ولي العهد السعودي في تصريح – هو الأول من نوعه منذ فرض الحصار على الدوحة – يشيد فيه بالاقتصاد القطري، وبعد أن كان الهجوم المبطن على تركيا والتلميح بدورها في دعم الإخوان المسلمين وجبة دائمة على مائدة الإعلام السعودي، صار الحديث كله عن العلاقات الأخوية بين السعودية وتركيا، الأمر الذي يؤكد التحليلات القائمة بأن ابن سلمان «محشور في الزاوية الضيقة» بفعل الضغط التركي.

وبحسب” نيويورك تايمز”، فإنه وعبر تسليط الضوء كذلك على المملكة وتجاوزاتها، والتي تمثل قضية خاشقجي نموذجًا صارخًا لها، يستطيع أردوغان لفت أنظار الرأي العام المحلي والعالمي نحو عدو جديد، بعيدًا عن الانتقادات التي توجه له على المستوى الداخلي، وبالتالي فإنه سيخرج من هذه الأزمة أقوى من ذي قبل.

الإبقاء على «شعرة معاوية» مع السعودية

باعتبار الجريمة وقعت على أراضي تركيا، وفي أهم مدنها (إسطنبول)، وهي معقل نفوذ الرئيس أردوغان، فقد اعتُبرت «إهانة» للدولة التركية، ومن ثم فقد ساد في بداية الأزمة اعتقاد بأن الأتراك سيردون بقوة دبلوماسيًا وسياسيًا ضد الرياض وثارت التكهنات بأن الأتراك بصدد قطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة.
لكن، وبرأي الكثيرين، فإن الاستجابة التركية «المندفعة» -وبقدر ما هي مشكوك في نتائجها وفعاليتها في الضغط على السعوديين الذين ربما استغلوا الأزمة الدبلوماسية المنتظرة مع تركيا للتغطية على حادث خاشقجي نفسه – كانت كذلك تنطوي على الكثير من المخاطرة بالنسبة لتركيا نفسها، ولا سيما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي الذي تعاني فيه تركيا خاصة منذ فرض العقوبات الأمريكية عليها قبل
أسابيع بسبب قضية القس برنسون.
تبلغ الاستثمارات السعودية في تركيا نحو 11 مليار دولار، ونحو 800 شركة سعودية تعمل في مجالات الطاقة والاتصالات والعقارات هنا، كما أن المستثمرين السعوديين صاروا أكثر إقبالًا على العمل في تركيا، في الوقت الذي يبلغ فيه حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 8 مليار دولار، وبحسب الأرقام الرسمية، تتصدر السعودية رؤوس الأموال الخليجية المستثمرة في تركيا بـ6 مليارات دولار، كما يمثل السعوديين موردًا اقتصاديًا مهمًا لتركيا في مجال السياحة، إذ بلغ عدد السياح السعوديين إلى تركيا عام 2017 نحو 600 ألف سائح.
أتاحت المقاربة التركية «متعددة الأبعاد» لتركيا ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فعبر التسريبات والتصريحات «غير الرسمية»، والمنسوبة إلى مصادر أمنية مجهّلة، تمكن الأتراك من إبقاء أكبر قدر من الضغوط على المملكة، في الوقت الذي اتبعت فيه مسارًا قضائيًا أكثر تريثًا، فيما كانت التصريحات السياسية «الرسمية» أكثر انضباطًا تجاه المملكة، وتتحاشى إلقاء التهمة بشكل مباشر على ولي العهد السعودي أو غيره، وإن فتح أردوغان باب التساؤلات حول من ألقى الأوامر بالقتل دون اتهام شخص بعينه.
ظلت اللغة الرسمية التركية تبقى على احترام الملك سلمان وتحادثا هاتفيًا متبادلين المديح، وتباحث أردوغان وولي العهد السعودي حول القضية هاتفيًا، بطلب من ابن سلمان نفسه، في الوقت الذي ثمن فيه الأخير علاقات بلاده مع تركيا ورئيسها، الأمر الذي ساهم في إبقاء «شعرة معاوية» بين البلدين، وجنب الأتراك الكثير من الخسائر التي قد تترتب على القطيعة الكاملة مع الرياض.

التقارب مع واشنطن.. القس برنسون يخرج في «زحمة» الأحداث

 

ظلت قضية القس الأمريكي أندرو برنسون – الذي اعتقلته تركيا في أعقاب الانقلاب الفاشل بتهمة التعاون مع حزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله كولن – موضع خلاف كبير بين البلدين، وقد أدت إدانة القس بالسجن ثلاثة أعوام وشهر، وتعنت الأتراك في الإفراج عنه، إلى إثارة غضب واشنطن، إلى حد تهديد ترامب ونائبه المسؤولين الأتراك علانية ما لم يتم الإفراج عن القس، وتطور الأمر إلى فرض عقوبات اقتصادية على أنقرة، قابلتها رافضة بتصعيد مماثل رافضة الامتثال للتهديد الأمريكي.
وسبق لأردوغان أن رفض الإفراج عن برنسون ما لم يتم تسليم رجل الدين التركي فتح الله كولن إلى أنقرة قائلًا: «يقولون ‭‭‭‘‬عيدوا القس لنا‭‭‭‘‬‬‬. لديكم رجل دين أنتم أيضا. سلموه (كولن) لنا. ومن ثم سنحاكمه (برونسون) وسنعيده لكم … لدينا يخضع للمحاكمة. رجل الدين لديكم لا يخضع (لمحاكمة). إنه يعيش في بنسلفانيا. وبوسعكم أن تسلموه بسهولة وعلى الفور».
أتاحت تداعيات مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي قدرًا من التقارب بين أنقرة وواشنطن، بعد الجفاء الذي أحدثته قضية القس برنسون، فقد أمسكت تركيا بكل خيوط القضية، وباتت تسرب الصور والمعلومات «بالقطارة» إلى وسائل الإعلام الأمريكية، الأمر الذي جعل من الضروري بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين الاستماع إلى نظرائهم الأتراك، وقد كانت هذه هي اللحظة المناسبة لـ«تسوية» قضية القس وتخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية التي عانى منها الأتراك أيما معاناة.

بشكل مفاجئ، وبسلاسة وهدوء شديدين قد لا يتناسبان مع الصخب الذي سببته الأزمة، أفرجت تركيا عن القس برنسون بعدما تغيرت شهادات شاهد الإثبات في القضية، وفي حين لم تتكشف بعد ما إذا كان ذلك جزءًا من «صفقة» تركية- أمريكية ذات صلة بمقتل خاشقجي، فإن الأكيد أن الأتراك قد استفادوا من زخم قضية خاشقجي لإطلاق سراح الرجل في هدوء وبدون الظهور بمظهر الضعيف أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، لتتخلص بذلك أنقرة من «صداع» كبير سببته أزمة القس وجر عليها الكثير من الضغوط والويلات.

المصدر: ساسة بوست
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى