مجتمع

اللغة و الهوية.. الغاية من اللغة أو اللغات داخل المجتمع؟ باتجاه تنويره أم بهدف سلبه و تجريده من هويته؟الحلقة2

محمد المباركي/ فرنسا

كانت الدراسات و الأبحاث بشأن تعلم اللغة قبل ثلاثين سنة بفرنسا تؤكد في غالبيتها ضرورة تعليم لغة واحدة للأبناء و التي هي لغة الأم التي ينشأ عليها الأطفال و كنا من بين القلائل في معهد الصحة و الهجرة نعاكس مجمل الأبحاث و ندافع كون العكس هو الإيجابي في تطور إدراك الأطفال و أن تعدد تعليم اللغات لا تعاكس اللغة الأم بل تقويها.

و كما أكدناه في الجزء الأول أن اللغة أية لغة هي أداة للتواصل و تعلمها لا يتناقض و الإلمام و الحفاظ على اللغة الأم كمركز أساسي للتوازن النفسي الفردي و الجماعي و كمحرك للثقافة الخاصة بنا كشعب و كحافز لمشاعره. و إلى هذا المنحى أشار افرانس فانون العالم النفسي و المناضل الثوري لما عالج الاستلاب الثقافي الذي هو ظاهرة للاستعمار الجديد لا يختلف بتاتا عن الاستعمار المباشر ، بل في كثير من مظاهره هو أبشع.

المعضلة المطروحة هي في العمق لا تخص عدم قدرة اللغة العربية أو الأمازيغية استيعاب العلوم الطبيعية و مواكبة الحداثة ، أكثر منه أية هوية نريد؟ هل هوية الاستيلاب أم هوية التحرر الثقافي الذي يتماشى و تحررننا الذاتي والاجتماعي.

لذا فالمعضلة الحقيقية تكمن في ضرورة الاختيار الديمقراطي و بناء دولة المؤسسات التي تجعل من تعميم التعليم و مجانيته و جدية محتوى مقرراته و عصرنتها عبر اللغة الأم كما صنع اليابانيين و الصينيين و غيهم من الدول صاحبة الحضارة الناضجة مثلنا.

في هذا الفصل سنطرح بعض المحددات لمحورة الحوار بصدد اللغة الفصحى كمدخل لربطها بالهوية الفردية و الجماعية.

المحدد الأول : كل اللغات لها أهميتها بالنسبة للفرد و المحيط الذي يعيش فيه. كما للفرد قدرة التعلم و النطف بالعديد من اللغات دون أي تأثير على كيانه النفسي و الفكري بل يزيده ذلك التفتح على  اللغات الأخرى أكثر تشبثا بلغة حضارته و أكثر قوة على الإدراك. لذا، المشكل ليس في تعلم اللغات، بل السؤال الذي يطرح نفسه جليا هو : ما هي الغاية من اللغة أو اللغات داخل المجتمع ؟ هل باتجاه تنويره و توعيته أم بهدف سلبه و تجريده من هويته؟

هذا المحدد يبعدنا عن التأويلات اللاغية التي تجعل من التشبث بلغتنا الحضارية نوع من التعصب و الانغلاق على الذات الثقافية و ان أصابها النكوص. بعد أن كانت قبل أربعين سنة ، تحث عموم البرامج التعليمية في مجمل البلدان التركيز على لغة واحدة و تفخيم ثقافتها ، تبين مع مرور الزمن ، أن تلك المنهجية متجاوزة و تعلم عدة لغات أصبح ضرورة العصر الحديث. الا أنه من قال تعلم اللغات و لو منذ النشأة ، لا يعني اهمال اللغة الأصلية بل جعلها العمود الفقري أو الجدع الثقافي المتين الذي منه معرفة باقي اللغات. يمكنني الحديث بعدة لغات لكن الثقافة الأصل التي أعبر عنها بتلك اللغات يظل عصبها هي لغة حضارتنا الجامعة كتعبير عن الانتماء للهوية الأصلية.

المحدد الثاني : بخصوص اللغة العربية الفصحى نؤكد مرة أخرى لرفع كل لبس في فهم مرمانا، أنها لا تعني لغة اعراب نجد نطقا و مضمونا ، كما أرادت تلفيقة عصبية بني أمية و العباس عصر التدوين. إنها لغة ثقافة شعوب و أمم عدة عمرت و طبعت الحضارة الإنسانية منذ نشأة الكتابة الرسومية فالمسمارية فالأبجدية لحفظ الموروث الحضاري و اغنائه و تعميمه بين أفراد الشعب و الأمة.

اللغة بهذا المعني هي الوعاء الذي يحتضن الثقافة التي تؤسس لحضارة معينة و التي اذا بلغت نوعا معينا من السمو أصبحت كونية، كما هو الشأن بحضارتنا العربية العظيمة و حضارة غيرنا من أهل الصين و الهند و الغرب. هناك فرق بين الحضارات الراشدة ذات الحضور الكوني و الذي يستحال تدجينها و الحضارة الجنينية التي لم تتمكن بعد امتلاك المقومات التي تسمح لها تجاوز حيز معين من الثقافة و الحضارة الناتجة عنها. و اللغات الدارجة ، أي التي تظل محدودة في مستوى النطق و التواصل  المتداول، تدخل في الحيز الأخير. هناك فرق بين اللغة الدارجة و اللهجات العامية كما سنوضحه لاحقا.

بعد ما سطرناه أعلاه أمكن القول كون اللغة العربية الفصحى هي نتاج ثقافي جامع ساهمت فيه مختلف الشعوب و الأمم لتؤسس حضارة ذات طابع كوني. طبعا اننا نعي أن هناك جوانب سلبية في حضارتنا كما هي موجودة في باقي الحضارات. ذلك أن كل حضارة هي نتاج مد و جز للصراع الدائم و المستمر بين القوى التي تدفع الارتكاز على العقل و التي تريد الركود و الارتكاز على الدغم الفكري الذي لا يمكنه أن ينج سوى الجمود و الجهل و ما يترتب عنه من استبداد و تسلط. مثلا لا بد من مراجعة منظورنا من الحضارة الفرعونية و الفارسية و الأمازيغية التي بلغت مستوى عال من التمدن لا مقارنة لها بالحياة البدائية التي كانت عليه قبائل البدو بمنطقة الجزيرة. و لفظة الجاهلية التي وضعت خلال عصر التدوين تروم بالخصوص الى هذا المنحى. لذا من المهام التي تواكب إعادة الاعتبار للغة الفصحى إعادة الاعتبار للموروث الحضاري ما قبل الإسلام ، الذي يوظفه خصومها لضربها و هي بريئة مما كتبه المتزمتون و المتعصبون لأيديولوجية معينة.

المحدد الثالث :  ضرورة ثورة ثقافية للقيام بنهضة جديدة بثقافتنا العربية الجامعة و التي يلزم أن تكون هذه المرة مرتبطة بفرض الاحتكام للمنظور و النهج العقلي في التعامل مع مختلف الركائز التي ينبني عليها المخيل السيكولوجي و التاريخي و المجتمعي ليتسنى لنا ولوج العصر الحديث. لا بد من قطيعة أبستمولوجية بين الدين و الدولة من أجل علمانيتها. غير هذا يظل كل تطلع للحداثة ضرب من الهدر الكلامي.

لا يمكن القيام بتحديث الواجهة ، بل يلزم أن يسري التحديث إلى عمق المجتمع. النضال المطلبي الجماهري  و الحراك الشعبي بكل أشكاله ، هذا إلى جانب القيام بالتوعية الضرورية لإشاعة المنظورات العقلية في كل المجالات، كلها أدوات النهوض بالنهضة التنويرية اللازمة لسيادة العقل و تجاوز النسخ و الجهل المعرفي.

المحدد الرابع : تجانس و تلاقح اللهجات العامية و اللغات الأمازيغية مع العربية الفصحى الجامعة للكيان الحضاري العام (يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى