رأي/ كرونيك

هل دخلت الدولة مرحلة تدبير ندرة خياراتها السياسية 2/2

هذه البلاد تهمنا. فيها عشنا و فيها سنموت و فيها يكبر أطفال يعنينا مستقبلهم ،لذلك  لا يمكننا التزام السكوت و هي تتأرجح بين خطاب غاية في العدم و خطاب ممعن في الخنوع.إنه لمن الأهمية بما كان،في اعتقادنا،أن يتاح  للمغاربة خيارا آخر يعيد لفكرة الإصلاح توهجها و معناها و زخمها و قدرتها على الاقتراح و الإقناع و الضغط و التفاوض و بعث و بث الدينامية داخل المؤسسات و في أوساط الرأي العام، و إعادة الإمساك بزمام المبادرة و موازين القوى لصالح إصلاح ديمقراطي يجيب عن انشغالات كل الفئات، و يعالج أعطاب ما فات من السياسات، و يصوغ التوافق التاريخي بين المؤسسة الملكية و أنصار التغيير دون مجازفات.

        هكذا أجمع العالم على ألف باء سياسة منذ فلاسفة  الإغريق و اليونان و رواد النهضة و مفكري الأنوار و منظري  الثورات الاجتماعية و أعلام المراجعات الكبرى، الذين قرروا مسائلة كل التراث الفكري الإنساني، الذي رغم عراقته و تعدده و غناه، لم يستطع ،بعد، إنهاء العنف من العلاقات بين الأمم و المعتقدات و الأديان و المصالح، و لم يفلح في تخفيف الفوارق بين الشمال و الجنوب، و لم يقدر على جعل الديمقراطية، بكل مضامينها و التداول السلمي على السلطة خيارا بديهيا لكل الحكام و الشعوب .

ارصدوا صراخ و كلام و صمت الناس عبر كل أرجاء البلاد و مواقع التواصل  و تفحصوا كنه الأمور  مليا لتتأكدوا أن وقت إعادة النظر في النموذج التنموي و الوضع الاجتماعي و التردد الديمقراطي قد حل، و أن المغرب في أمس الحاجة لمن يريدون الإصلاح بفتح ملفات و أوراش و معضلات الإصلاح دون مغالطات و لا مزايدات و لا مجاملات.

     خارج ذلك ستبقى البلاد تراوح مكانها، و تجتر نخبا بئيسة، و مؤسسات عاجزة، و أداء لم يعد قادرا على نقل البلاد إلى مصاف الدول الصاعدة و مجارات منطق العصر، و امتلاك رؤية بعيدة المدى، و خارطة طريق للأفق  المتوسط و المنظور، و خططا جاهزة للإنجاز والتجاوب مع احتياجات المغاربة و التعامل مع  قوة الأشياء و تسارع الأحداث و تدارك الأخطاء. لا أحد قلبه على الوطن و أبناء الوطن، يريد للمغرب  أن يعيش مع الديمقراطية قصة سيزيف مع الصخرة و الجبل. لكن يبدو أننا، للأسف، نحاكيها ببراعة و التجارب، يا سادة، تظهر أن قوانين التاريخ تضجر من هكذا إتلاف لفرص التقدم. قد نتراجع خطوة للوراء لنقفز خطوتين إلى الأمام،لكنه من المقلق فعلا أن نتراجع الخطوة تلو الأخرى و على كافة الأصعدة دون أن ننقل قلقنا هذا إلى فضاءات النقاش العمومي مع المعنيين في الدولة و في المجتمع بدعوى عدم إغضاب هذا أو ذاك من علية القوم و كبار المسئولين.

       إن ما يهمنا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ بلادنا، هو الإسهام بالرأي و الفعل و التضحيات في معالجة استياء عام بدأ يستوطن المشهد الوطني بشكل مخيف،ما يهمنا هو التعاطي مع حالة التماهي التام للنخب مع الدولة، والذي أثار حفيظة المتضررين و أفضى إلى خروجهم للكلام و الاحتجاج و الانتفاض دون وسائط.هذا ما يجب أن يأرق و يقرأ و يشغل البال.أما حفيظة خصوم الإصلاح و مصادري واجب الإفصاح عن الحقيقة منا، فهو أمر وارد، لكنه لا يجب أن  ينال من قناعتنا الراسخة  بالانتقال نحو الديمقراطية، و بالمهام الآنية والمرحلية المطروحة  لاستئناف هذا الانتقال بأقل التكاليف، حتى لا نقول دون تكاليف لألا نتهم بالطوباوية .

على الصعيد الاقتصادي، تعاني البلاد من وهن الناتج الداخلي الخام و هزالة معدلات النمو و الافتقار لرؤية تمكن من ابتكار موارد جديدة لإنتاج الثروة.حجم المديونية و عجز الميزان التجاري وضعف الاستثمار العمومي و الخاص ،هي تجليات لإشكالية وضع الثروة، الذي يبدو أنه غير مساعد لا على تحقيق التنمية المستدامة و لا على الالتحاق بالدول الصاعدة، رغم الأوراش المهيكلة و المبادرة الوطنية للتنمية البشرية و المخططات الإستراتيجية في الفلاحة و الصناعة و السياحة. لقد تأثر الاقتصاد الوطني سلبا بارتدادات الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم منذ غشت 2008 و بالريع الذي يستنزف الكثير من الإمكانيات، أي نعم، لكن الأساسي في الأمر، أن جينات الاقتصاد المغربي تحمل عوائق بنيوية  تحتاج إلى معالجة قد يكون التقرير الخمسيني إحدى مداخلها لو أخذ حظه من البحث والتداول و النقاش و التنزيل .إن تعاقب حكومات لا تجرأ على سن قانون للتنافي بين المسؤوليات السياسة و العمل في مجال الاستثمار و الأعمال، و لا تقدر الجدوى الاقتصادية للمؤسسات العمومية الإستراتيجية، و تتنازع صلاحياتها بين المجلسين الحكومي و الوزاري،

و تنزع نحو تدبير اليومي و التسليم بتوصيات رأس المال العالمي و الأقطاب الاقتصادية الكبرى، و إدارة الأزمات بدل وضع خرائط طريق لتجاوزه، و الانتقال إلى وضع أفضل، كما حصل في كوريا الجنوبية

و تركيا و البرازيل ،على سبيل المثال لا الحصر،إن ذلك لمن شأنه تعقيد القفزة النوعية من السير في طريق النمو إلى حجز مكان ضمن الاقتصاديات الصاعدة. و إجمالا يمكننا القول أن اختناق الوضع الاقتصادي

و ركوده قد بات حالة محسوسة لدى العامة و التجار و أصحاب المقاولات و رجال الأعمال، بدءا من بقال الحي و صولا إلى صالونات النخب المالية و الاقتصادية.

لم يعد في وسع أحد أن يختبئ وراء أرقام خارج السياق ليبشرنا أن اقتصادنا بخير.البلاد في حاجة إلى إصلاحات اقتصادية عميقة، تشخص المعضلات، و تحدد الأولويات، و تطرح البرامج و الاستراتيجيات،

و تحشد إمكانيات المغرب و الرأسمال الوطني، و تغري الاستثمار الأجنبي بالتاريخ و الجغرافيا و الطموح، و بالتفاوض رابح-رابح  حول المصالح. إصلاحات لا خطوط حمراء لها إلا القانون و الحق و المصالح العليا للوطن.

واقع الحال الاجتماعي ليس في حاجة إلى توصيف.أعداد القابعين تحت عتبة الفقر تتعاظم، و الأجراء، و الحرفيون و التجار الصغار أنهكتهم تكاليف العيش، و المحسوبين على الطبقة الوسطى غارقون في الاقتراض، والمقاولون يسقطون تباعا، و الفوارق الاجتماعية بلغت حدا لا يطاق.الناس يشعرون أن هناك مغربان، واحد لذوي النفوذ و الحظوة و هم أقلية كان  ينعتها خطاب القوات الشعبية بحفنة المحظوظين و آخر للأغلبية التي كانت صامتة و أصبحت الآن تتحدث بغضب لا يمكن لا تجاهله و لا استيعابه و لا إسكاته بالمقاربات الأمنية التي لن تفيد في شيء انتقال البلاد نحو الديمقراطية. هذه حقيقة اجتماعية نرصدها من الواقع على سبيل إثارة الانتباه إلى ما يمكن أن تؤول إليه إن لم تصبح العدالة الاجتماعية أولوية و جوهر و مبتغى السياسات العمومية و مشروع الانتقال نحو الديمقراطية،حقيقة اجتماعية نذكر بها المعنيين بحاضر و مستقبل البلاد، و الحريصين على إحداث التغييرات اللازمة صيانة للسلم المدني و للأمل و الحلم بغد أفضل، و ليس من باب ترديد خطابات العدمية الجوفاء.

لا شك أن بؤس المشهد السياسي و الصعوبات الاقتصادية الكبيرة و الاحتقان الاجتماعي المتصاعد، و غياب آليات الوساطة بين الشارع و مراكز صناعة القرار،رغم الترسانة المؤسساتية التي تتوفر عليها البلاد،لا شك أن ذلك يضعنا أمام مسؤولياتنا في تقييم الوضع العام و اشتقاق مهام المرحلة. مرحلة صعبة لا يستساغ التعاطي معها بأساليب و وسائل و آليات لفظتها تطورات الأمور، و باتت عنوانا للرداءة في إدراك الجماهير. يكفي أن النخب الحالية أصبحت تفضل اجتماعات الصالونات و السفريات عبر المعمور على العمل قرب الشعب على الأرض، لعلمها أنها لا تستطيع إغراء الناس في دواويرنا و قرانا و أحيائنا  و حواضرنا لحضور لقاءاتها التي لم تعد تجلب سوى التثاؤب.
إن إعادة صياغة فكرة الإصلاح الحازم، لربما أصبحت، و أكثر من أي وقت مضى، جديرة باهتمام الديمقراطيين الحقيقيين الذين يصرون على مواجهة مواطن الفساد و دعاة الاستبداد و ناثري القنوط دون هوادة و يؤمنون بالتغيير في إطار الاستقرار و بتوافق معلن المبادئ مع المؤسسة الملكية.

     

تلكم هي المسألة

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تعرضت الاشتراكية الإصلاحية التي دعا إليها “إدوارد برينشتاين” إلى شتى أصناف الاستهزاء والافتراء و السخرية على يد منظري الثورات الاجتماعية وخيارات الإطاحة الجذرية بالنظام الرأسمالي. وها نحن بعد 130 سنة، نبحث عن أطروحة للإصلاح، إصلاح أحوالنا

و أحوال العالم من حولنا، بعد أزمات حركات التحرر الوطني  و المد القومي و الفكر الاشتراكي و تفكك الاتحاد السوفياتي و سقوط جدار برلين و اكتفاء الصين بالبحث عن الأسواق و المصالحة بين الولايات المتحدة الأمريكية  و كوبا و تحول الثورة الإسلامية في إيران إلى أصنام للعبادة  و تجارب الإسلام السياسي في العديد من الدول إلى توحش و اقتتال و تصفية للمخالفين و الربيع العربي إلى ما يشبه الجحيم واختراق خطاب اليمين المتطرف لمفاصل صناعة الرأي العام والقرار بدول الشمال. ها نحن بعد 130 سنة، في حاجة لمن يطرح الأسئلة الجوهرية للإصلاح عوض البدائة والتفاهة والزيف والوهم واليأس والعدم.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى