رأي/ كرونيك

وشهد شاهد.. الريسوني إذ يطلق على الإسلامويين رصاصة الرحمة..

أحمد بان الكاتب والباحث المصري

“لا نجد في شـرع الله تعالـى نصاً صريحاً آمراً وملزماً بإقامة الدولة، كما لا نجد في شأنها نصوصاً في الترغيب والترهيب، على غرار ما نجد في سائر الواجبات، وإنما تقرر وجوب إقامة الدولة، ووجوب نصب الخليفة، من باب الاجتهاد والاستنباط، ومن باب النظر المصلحي والتخريج القياسي، وامتداداً للأمر الواقع الذي تركه رسول الله، صلى الله عليه وسلم”؛ هكذا بدأ الدكتور أحمد الريسوني، رئيس “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، إطلاق قذائفه الثقيلة على مشروع الإسلام السياسي وجماعاته، وقضيتهم المركزية؛ الدولة والخلافة.

يكمل الريسوني بوضوح رأيه، في مقال له نشر مؤخراً على صفحته وعلى صفحة “رابطة علماء أهل السنّة” قائلاً: “وفي جميع هذه الحالات؛ فإنّ وجوب الدولة والخلافة، إنما هو من باب الوسائل لا من باب المقاصد؛ فهي (أي الدولة) من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بمعنى أنّ هذا الواجب ليس من نوع الواجب لذاته، وإنما هو من نوع الواجب لغيره، ومعلوم أنّ الواجب لغيره أخفض رتبة، وأقل أهمية، من الواجب لذاته، وهذا يعني أمرين: الأول؛ أنّ السعي في إقامة الواجب لغيره لا ينبغي أن يكون على حساب ما هو واجب لذاته، ولا يجوز أن يكون ضاراً به، أو مفوتاً له. والثاني؛ أنّ ما تتوقف إقامته على إقامة الدولة، إذا أصبح ممكن التحقيق بغير الدولة، فقد سقط وجوب هذه الوسيلة سقوطاً جزئياً”.

ثم يعود للاشتباك مع الواقع الحالي الذي يسعى  الإخوان، ومن هم على شاكلتهم، لتغييره، فيقول: “كما أنّ الدولة القائمة قد تتأتى، في كثير من الحالات، إقامة بعض الدين في ظلها أو من خلالها، حتى ولو كانت منحرفة أو مناوئة أو معادية، فضلاً عما إذا كانت محايدة أو محابية، وفي هذه الحالات أيضاً؛ فإنّ أهمية الدولة الإسلامية وضرورتها تنقص بقدر ما تتيحه الدولة القائمة من فرص وإمكانات لإقامة الدين وإقامة أحكامه في الحياة الخاصة والعامة”.


كلام قاله كثير من مفكرينا، ممّن وسموا في المخيلة الإسلامية بالعلمنة والتغريب، إخلاصاً لفقه التاريخ والواقع عن الدولة، باعتبارها منتجاً بشرياً يعكس الخبرة البشرية وحركة التاريخ ، ما الذي يختلف في كلام الريسوني الذي يقوله في حسم واضح: “ثم إن الدولة التي نعدّها وسيلة، هي في الحقيقة وعلى وجه التفصيل مجموعة من الوسائل، وهذه المجموعة من الوسائل قابلة للتفكيك والتفريق، أو بتعبير الأصوليين؛ قابلة للتبعيض؛ حيث يتحقق بعضها دون بعض، ويكون بعضها قابلاً للتحقيق، وبعضها ليس كذلك، ويكون بعضها صالحاً مشروعاً، ويكون بعضها منحرفاً مرفوضاً، وهذا يعني أن ما يكون متحققاً وصالحاً ومقبولاً في الشرع، أو كان ممكن التحقيق والإصلاح، فهو جزء من الدولة الإسلامية  يجب التمسك به والاعتداد به”.
ثم يشخص حال تلك التنظيمات وواقعها فيقول: “غير أنّ الخطأ الكبير والمأزق الخطير الذي وقعت فيه وتقع فيه بعض الحركات الإسلامية، هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف، وتضييع الهدف حرصاً على الوسيلة، فكثيرون أولئك الذين أفنوا أعمارهم واستهلكوا حياتهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة، من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر، وربما لم تزدد الدولة بفضل جهودهم إلا بعداً وعسراً، وهكذا؛ فلا الدولة قامت بهم، ولا الأمة استفادت منهم”.


تأمّل الرجل هنا كأنّه يلمز في الجماعة وتاريخها وفعلها، وهي التي وضعته على رأس المؤسسة، بديلاً للقرضاوي، الذي كان رئيساً لها، بما يعني أنّ إسدال الستار على ولاية القرضاوي  للاتحاد، قد يعني أيضاً إسدال الستار على المشروع؛ فكرياً وسياسياً، وقلنا في السابق مراراً؛ إنّ جماعة الإخوان استكملت دورة حياتها، ولم تعد أفكارها قابلة للتعويم من جديد.

تأمّل صراحة الرجل في نقد مآلاتها وسلوكها، في محاولة لإيجاد تلك الدولة وفق تصوّر منحرف يقول: “والأدهى من هذا والأمرّ، هو أن يصل طلب الدولة والسعي إلى إقامتها إلى درجة التعذر والانسداد، أو بعبارة أخرى؛ يدخل طلب الدولة في مرحلة انسداد المسالك وانفتاح المهالك، ومع ذلك يستمر الإلحاح والإصرار والصدام”.
يقولها بوضوح: أنتم تنطحون رؤوسكم في الصخر، وتعيدون الكرة دون ملل، كسيزيسيف وصخرته في الأساطير ، وتتجاهلون الواقع وقوانينه الاجتماعية، وسنن الله الكونية، التي تعاملتم معها باعتبارها تعمل لصالحكم دون مسوغ من عقل أو شرع، فبصدق يقول: “نعم، إنّ عمل الإنسان وجهده وتقدمه ونجاحه هو جزء من الأسباب والشروط، وهو محرك للسنن والقوانين، بإذن الله، ولكنه يظل محكوماً، أو على الأقل محدوداً، بفعل عوامل كثيرة لا يجوز إغفالها أو إسقاطها من الحساب والتقدير، ليس الإسلام مرهوناً في وجوده بكم، أو بغيركم، ولا بتصوركم عن دوره في الدنيا، الإسلام يمكنه أن يستمر ويستقر وينمو ويمتد، حتى مع انتقاض عروة الحكم، بانحرافه أو غيابه؛ فمن المعلوم أنّ الله تعالى أنزل دينه ليظهره على الدين كلّه، وأنّه وجد ليبقى إلى قيام الساعة، فإذا كان سيفقد عروة الحكم في وقت مبكر من تاريخه، فمعنى هذا أنه سيعيش ويستمر قائماً زمناً طويلاً، دون الاعتماد على تلك العروة المنتفضة!
مصداق هذا التنبيه النبوي وتفصيله وبيانه يوجد في تاريخ الإسلام  والمسلمين، من أول قرونه إلى الآن، فقد ترعرع الإسلام واشتد عوده وامتد نفوذه عبر الزمان والمكان بالرغم من انتقاض عروة الحكم.


ماذا يعنـي هذا؟
يعني أنّ عرى أخرى في الإسلام أكثر أهمية وفاعلية من عروة الحكم بقيت قائمة مشتغلة، ويعني أنّ الأمة تستطيع أن تكون قوية متينة نامية فعّالة، حتى مع وجود اختلالات وانحرافات في نظام حكمها.
ومعنى هذا أيضاً؛ أنّ الدولة ليست كل شيء، وليست أهم شيء، وحين تصير الدولة كلّ أو أهم شيء، في حياة الناس، وحتى في أذهانهم، فإنّها تصبح حينئذ أخطر شيء على الناس، وقدراتهم ومبادراتهم وفاعليتهم.
أما حين ينظر الناس إلى الدولة  على أساس أنّ لها حيزاً محدوداً، ووظائف محدودة، وأنّها لا يمكن أن تقوم مقام الأمة، ولا أن تلغي وظائفها، فإنّهم حينئذ يتحررون من عقدة الدولة وتأليهها، وينطلقون في أداء واجباتهم وإصلاح شؤونهم، وبناء مجتمعهم، وحمل رسالتهم، أياً كانت مواقف الدولة ودرجة تعاونها أو تخاذلها أو انحرافها.

ثم يختم الرجل بقوله: “نجاحنا لا يتوقف على فشل غيرنا؛ كثير من الكتّاب والمفكرين والدعاة المسلمين، إذا تحدثوا عن مستقبل الإسلام، دخلوا مباشرة في الحديث عن مواجهة المخططات والتحديات الخارجية والمؤامرات المعادية، وإذا تحدثوا عن رسالة الإسلام وحضارته وحاجة البشرية له، فإنّهم سرعان ما يربطون ذلك بأزمة الحضارة الغربية وعيوبها، ويتحدثون عن فشلها وبوادر تفككها وحتمية انهيارها، وكأنه لا مستقبل للإسلام، ولا مكان لرسالته وحضارته، إلا على أنقاض الحضارة الغربية، ولا مكانة للمسلمين إلا بفشل الغرب وتلاشي قوتهم، وكأنّه علينا أن ننتظر ذلك أو أن نعمل لأجله، كي نأخذ بعد ذلك دورنا، ونؤدي رسالتنا، ونصنع مستقبلنا، وهذا ليس لازماً، كما أنّه  في جزء منه ليس صواباً، فمصلحة البشرية، ومنها المسلمون، تكمن في الحضارة الغربية  وتحسينها وترقيتها ما أمكن، وهذا لن يتأتى من جهة إلا بمحاورتها واختراقها واستيعاب إيجابياتها وتبنّيها.
ومن جهة أخرى؛ بمزيد من النجاح والتقدم للإسلام، بعقيدته وأخلاقه وقيمه وشريعته، وبالنماذج والإنجازات المشرّفة لأهله، والمشوقة لغير أهله.إنّ المسلمين، من حيث هم مسلمون، يجب أن يؤمنوا بمستقبل الإسلام  ومكانته، وبدوره ورسالته، وبإمكان نجاحه، دونما توقف على نجاح الآخرين أو فشلهم، ولا على قوتهم أو ضعفهم، ولا على انتصارهم أو هزيمتهم، بعبارة أخرى: إنّ للإسلام مكانته وقوته ومستقبله، حتى مع قوة الغرب وجبروته، ومع بقاء حضارته وهيمنته، لقد نهض اليابانيون ونجحوا فيما أرادوا النجاح فيه، تحت الهزيمة العسكرية  والسياسية، وتحت الاحتلال والتسلط الأمريكي. وكذلك فعل الألمانيون، والكوريون الجنوبيون، والتايوان”.
لم يعد هناك بيان أجدى من هذا البيان، وشهد شاهد من أهلها، فهل يستفيق المضلَّلون، والهاربون من عقولهم وأوطانهم، ويصالحون كوناً وسنناً عاندوها طويلاً؟!

المقال: منشور في الموقع “حفريات”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى