في الذكرى الأولى لرحيله..محمد سبيلا:”لم أستطع أبدا أن أتخلص من شغفي بالسياسة إلى الآن” +فيديو
لقد كان الراحل سبيلا يعتبر درس الفلسفة مكسبا نوعيا في المنظومة التربوية المغربية ينبغي تعزيزه كأحد مداخل وواجهات التحديث الفكري في مواجهة تيارات التقليد والفكر النكوصي
1
بعد حصده أرواح عشرات من المثقفين والمفكرين والمبدعين، هنا وهناك، جاء الدور يوم التاسع عشر يوليوز 2021 على علم من أعلام الفكر الفلسفي، وقلم من أقلام التنوير والتحديث الثقافي، المفكر والأكاديمي وأستاذ أجيال من الباحثين في الفكر الفلسفي المعاصر والعلوم الاجتماعية الدكتور محمد سبيلا. إنه حقا لرحيل صادم ومفجع لمفكر اقترن اسمه بالحداثة الفلسفية التي جال في أروقتها الفكرية عبر التاريخ، وفي “جغرافيتها”، معرفا بمساراتها ومفاهيمها المؤسسة لها، ومترجما لنصوصها الكبرى، ومحللا علاقتها المعقدة بالتقليد في مجتمعات التأخر التاريخي بغاية تقريبها من القراء، ورفع ما يحيط بها من غموض والتباس .
وسيظل الدرس الفلسفي المغربي يدين للراحل محمد سبيلا بالكثير من الأفضال عليه، إذ فتح درس الفلسفة في الجامعة على مكتسبات الفكر الحديث، وعلى الفلسفة المعاصرة بمختلف مدارسها وتياراتها، ودعم وغذى درس الفلسفة في التعليم الثانوي بترجماته صحبة المفكر عبد السلام عبد العالي، لنصوص فلسفية معاصرة ذات علاقة بمفاهيم المجزوءات المقررة في مادة الفلسفة بهذا السلك التعليمي، وكذلك بمساهمته في تأليف كتب مدرسية متميزة لمستوى الباكالوريا، هذا إضافة إلى حضوره المواظب في جل الندوات الفكرية والبيداغوجة لجمعية مدرسي الفلسفة .
لقد كان الراحل سبيلا يعتبر درس الفلسفة مكسبا نوعيا في المنظومة التربوية المغربية ينبغي تعزيزه كأحد مداخل وواجهات التحديث الفكري في مواجهة تيارات التقليد والفكر النكوصي، ولأجل ذلك لم يتوقف عن الدعوة والعمل على إرساء جسر بين درس الفلسفة في الثانوي، وبينه في الجامعة بهدف تحقيق تكوين متكامل ومتناسق لخريجي شعبة الفلسفة، أساتذة وباحثين.
ذلك كان هاجسه الذي جعل منه عن جدارة رمزا من رموز درس الفلسفة المغربي الذين دافعوا عن مكانته المحترمة والمطلوبة في البرامج والمناهج الدراسية بمختلف الأسلاك في وجه ما تعرض له لسنوات طويلة من محاولات التهميش المعرفي و الإقصاء المؤسسي له
2
في الذكرى الأولى لرحيلة، أ قتطف هنا مقطعا من مقالة ساهمت بها في الكتاب التذكاري حول فكر محمد سبيلا، خصصته للحديث عن تجربته السياسية باعتباره سليل الحركة الوطنية الديمقراطية التقدمية المغربية، وأحد رموزها في حقبة الصراع الملتهب بين القصر والمعارضة الموسومة “بسنوات الجمر والرصاص، جاء فيه:
تعود علاقة سبيلا بالسياسة إلى مرحلة الطفولة، يحكي قائلا: “لقد تورطت في العمل السياسي منذ طفولتي، لأن الوالد في تلك المرحلة (مرحلة نفي الملك محمد الخامس) وأنا في التعليم الابتدائي كان يطلب مني عند اجتماع خلية حزب الاستقلال أن أقرأ لهم جريدة العلم، فقد كانوا أميين.، هكذا كان يتم إقحامي في قراءة هذه الجريدة وفي احتفالات عيد العرش وفي قراءة الأناشيد الوطنية..، ولد لدي كل هذا ما رافقني طيلة حياتي: أولوية السياسة , و لهذا لم أستطع أبدا أن أتخلص من شغفي بالسياسة إلى الآن” 30.
وعلى الرغم من مرارة تجربته في العمل الحزبي، بقي سبيلا شديد الارتباط بالحقل السياسي و تحولاته، محللا مفارقاته، ومنتقدا ظواهره السلبية التي أفرزها بفعل ما حدث بالتدريج من انفصال بين الثقافي والإيديولوجي وبين السياسي الحزبي.
لقد أصبحت السياسة عنده موضوعا للتفكير والتحليل، والتشريح لظواهرها السلبية والمرضية، باعتبارها ” إحدى أكثر الممارسات الإنسانية تعقيدا وتشابكا.. ففيها يندغم الواقع بالوهم والوعي باللاوعي، والمعطى العيني بالمتخيل .. ” 31.
في ضوء هذا التحديد أو التعريف للسياسة، قام سبيلا بتفكيك وتشريح الظاهرة السياسية للكشف عن ما تنطوي عليه السياسة خطابا وممارسة من “مكر وخفاء ودهاء”، مسلحا في ذلك بمفاهيم مدرسة التحليل النفسي (فرويد , إريك فروم) .
إن نظرة على عناوين المقالات التي نشرها في كتاب ( للسياسة ، بالسياسة: في التشريح السياسي) تفصح عن جدة وجرأة مقاربته للسياسة كفعل وخطاب، وللفاعل السياسي في بعده النفسي، هكذا نقرأ، مثلا عناوي : ” البعد اليوتوبي للخطاب السياسي ” ،” اللاوعي السياسي أو عالم المطمورات السياسية”، ” الحزبية والنظام الأبوي”، ” المناضل،, قديس أم عصابي” ..الخ، دافعه في ذلك عقلنة الممارسة السياسية، ودمقرطة الحياة الحزبية بإرسائها على النقد والنقد الذاتي والمحاسبة إذ كما يقول “لم يعد يكفي أن يرفع المناضل شعاراتنا وان يكرر تحليلاتنا ومقولاتنا وان يعلن انتماءه لنا حتى يصبح ملاكا طاهرا منزها عن الخطأ والشهوات ” 32 .
لقد ظل محمد سبيلا، منذ انقطاعه عن العمل الحزبي يتابع قضايا الشأن السياسي بالتحليل والنقد والرأي والموقف بعيدا عن حرارة المناكفات والصراعات السياسوية والإيديولوجية، والتخندقات الضيقة، كما بقي حاضرا ومؤثرا في الفضاء السياسي العام بمداخلاته في الندوات وحواراته مع مختلف المنابر الإعلامية، وعلى سبيل المثال،سأتوقف، هنا بإيجاز عند ثلاثة موضوعات سياسية كبرى سجل فيها سبيلا حضورا تميز بعمق نقدي، و بمبدئية في تسمية الأشياء بمسمياتها باستقلالية في الفكر، ودون مجاراة أو مداراة،وهي:
_ نقد أزعومة” نهاية الاشتراكية”: في يوم دراسي حول “سؤال الاشتراكية اليوم” نظمه الحزب الاشتراكي الديمقراطي سنة 2002، ساهم سبيلا بمداخلة تحت عنوان” الاشتراكية والحداثة” 33.
بعد تحليله لعوامل انهيار الكتلة الاشتراكية، أكد على أن هذا الانهيار” لا يعني الخسوف النهائي للاشتراكية والانتصار النهائي للنموذج الليبرالي كما عبر عنه المبشرون “بنهاية التاريخ”” فالاشتراكية كفكرة ومثال، ستظل، كما قال” البديل الموضوعي لمعالجة الاختلالات الاجتماعية الناجمة حتميا وعضويا عن التطور التلقائي لنظام السوق واجحافاته الاجتماعية”، كما انتقد في نفس المداخلة، الأحزاب الاشتراكية في بلدنا والبلدان المتأخرة التي “ما عادت قادرة على التشبث بالمثال الاشتراكي بنفس الحماس، وما هي قادرة على ممارسة التأويل والاجتهاد وإعمال الفكر..” ما نتج عنه ” افتقاد الممارسة السياسية لموجهاتها الفكرية والإستراتيجية ووقوعها في أحضان الواقعية اليوتوبية ..،وفي أحضان البراغماتية”، داعيا اليسار الاشتراكي وتياراته إلى التحرر من النزعات الاقتصادوية والسياسوية الاختزالية و “الحفاظ على الشحنة الفكرية الحداثية للاشتراكية ..، وعلى جاذبيتها في الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي “.
_ نقد النزعة الاستئصالية: في مناخ الغضب العارم والصدمة القوية إثر التفجيرات الإرهابية في مدينة الدار البيضاء ليلة 16 مايو 2003 , ووسط دعوات صاخبة لاستئصال تيارات الإسلام السياسي، وحل حزب العدالة والتنمية الذي يعمل في إطار الشرعية السياسية، سألت جريدة” السياسة الجديدة” الراحل محمد سبيلا في حوار أجرته معه 34، عن رأيه في تلك الدعوة، فأجاب منتقدا وشارحا:
“الموقف ألاستئصالي موقف غير مقبول من أي طرف لأنه موقف غير عقلاني وغير حداثي رغم ادعائه الانتساب فضاء الحداثة”
ينسجم موقف محمد سبيلا من هذه النزعة مع القواعد التي سبق له تحديدها في التعامل مع ظاهرة الإسلام السياسي، من بينها ” الابتعاد عن كل نزعة اختزالية..الابتعاد عن التعميم المتسرع للأحكام ..، والابتعاد عن حرارة الإيديولوجيا ومبالغاتها وانحيازاتها..” 35، فبناء على هذه القواعد، أكد في الحوار المشار إليه، على أن تيارات الإسلام السياسي ليست متجانسة، وبالتالي ينبغي ” أن نميز في تيارات الإسلام السياسي الوفية لروح الوسطية الإسلامية أي التيارات المعتدلة، الرافضة للإرهاب والرافضة للعنف..و أما القوى التي هي أ كثر راديكالية فيجب أن تستدرج إلى الحقل السياسي..، فكلما استدرجت هذه القوى إلى الحقل العام وإلى الساحة العامة, كلما أمكن الحوار معها ..”، ويدعو سبيلا الدولة إلى مقاربة لظاهرة الإسلام السياسي المتطرف تقوم على “نهج سياسة تعليمية وثقافية عقلانية تحديثية طويلة المدى …يجب الابتعاد عن الإقصاء ودفع هذه القوى إلى الظلام والدهاليز لأنها بذلك ستتحول إلى حركات فدائية عنيفة لا ينفع معها أي شيء”.
ولقد أثبتت التجربة حكمة وعقلانية المقاربة التي تبناها سبيلا ودافع عنها، وأظهرت نجاعتها السياسية في تجنيب البلاد ماسماه ” بالنفق الجزائري”.
نقد النخبة السياسية المغربية:
واكب محمد سبيلا بالبحث والتحليل تطور النخب المغربية، السياسية والثقافية منذ مرحلة النضال الوطني من أجل الاستقلال، راصدا ما طرأ عليها من تحولات سلبية، خاصة منها انفصال العمل السياسي عن قاعدته الثقافية والفكرية، ودخوله في متاهات الاحترافية المبتذلة للسياسة والعمل الحزبي:
فبعد أن كان الفاعل السياسي فقيها أو مثقفا له نصيب من الثقافة العصرية مثل علال الفاسي والمختار السوسي والفقيه غازي وغيرهم، أو مثقفا عصريا كأحمد بلا فريج ,وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الله إبراهيم، و بلحسن الوزاني..، “فرض تطور الممارسة السياسية بالمغرب نوعا من الفرز نحو الاحتراف ونحو امتهان العمل السياسي، وهذا ما جعل الفئات السياسية في مجتمعنا تتسم بالفقر الفكري والإيديولوجي المذهل ” 36، وقد ركز سبيلا في نقده للنخبة السياسية على الفاعل الحزبي الذي “تحول من كونه إطارا كاريزميا مشبعا بالأفكار والتحليلات والمشاريع (نموذج علال الفاسي )، إلى مجرد خبير براغماتي يجيد فن المناورة والتكتكة وفنون اللعب السياسي والبهلوانية السياسية .” 37 , ولاشك في أن لهذا النقد لواقع النخبة السياسية، ولمآل الفاعل السياسي الحزبي له اليوم، ما يسنده في الحقل السياسي الحزبي من ظواهر ونزعات سلبية، وتراجع مريع في منسوب العقلانية السياسية، ومن ضمور للحس النقدي للفاعلين السياسيين النافذين والمحتلين للمواقع الأمامية والحيوية في المشهد السياسي العام .
ذلك هو ما جعل سبيلا يلح باستمرار على حيوية النهوض بالمستوى الثقافي العام للفاعل السياسي المغربي، ويشدد على إعادة بناء الجسور بين السياسة وبين قاعدتها الثقافية والفكرية والإيديولوجية، فبدون تغذية فكرية تصاب السياسة بالتصحر وفقر الدم.
لقد ظل المفكر الراحل محمد سبيلا ، وإلى حين رحيله،مهتجسا بقضايا ومعضلات المغرب والعالم، متابعا للتحولات والمنعطفات الكبرى بالتحليل والرأي والموقف، مرشدا وموجها نحو تناول عقلاني لها، بعيد عن ردود الأفعال الغريزية والأحكام الإيديولوجية المتسرعة والجاهزة.
هكذا مارس شغف السياسة المتجذر فيه والذي لم يفتر أبدا حتى وهو خارج أي انتماء حزبي، مارسه في الفضاء الإيديولوجي والفكري الحداثي الذي انحدر منه، وغاص بالفكر والمعرفة والتفلسف في أعماقه، و لذلك كانت خسارة رحيله مزدوجة:
خسارة”مناضل سياسي نقدي” وخسارة “مناضل فلسفي حداثي تنويري” لكنه وككل الكبار الذين بصموا عصورهم بعطاءاتهم المتميزة في مجالات الفكر والعلوم والسياسة والإبداع .. رحل ..ولم يمت.