ما تعيشه اليوم فلسطين …يحدث تحت عنوان غزة الذاكرة والتاريخ
الحرب لم تنته لأن الدفاع عن الحياة والحق والأرض لا ينتهي فما تشهده غزة اليوم ليس سوى أحد فصول هذه الحرب المديدة الناجمة عن الجنون الاستعماري الذي يفترض بأن القوة العارية تصنع التاريخ وترسم الجغرافيا
تبدو الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة، وكأنها جزء من ذاكرة تستعاد. انفجار المشرق العربي الذي أخذ منعطفاً تراجيدياً بعد نكبة 1948، محا الفروق بين الذاكرة والحاضر.
نعيش الحاضر كأنه ذاكرة، ونعيش الذاكرة كأنها حاضرنا. هذا ما يختبره اللبنانيات واللبنانيون منذ 1975، وهذا ما تعيشه فلسطين منذ بداية الانتداب البريطاني.
وقف الجنرال الإنكليزي ادموند النبي أمام أسوار القدس، بعد سقوط المدينة في 11 كانون الأول/ديسمبر 1917، وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية».
يبدو أن الأمور التبست على الجنرال البريطاني الذي أسكره النصر على الجيوش العثمانية، فبدل أن يقول اليوم بدأت الحروب الصليبية من جديد، قال إنها انتهت!
التاريخ يخدع أبطاله. قلّد الفرنسيون الجنرال البريطاني، عندما وقف أحد جنرالاتهم أمام قبر صلاح الدين في جامع بني أمية في دمشق وصرخ: «يا صلاح الدين، ها قد عدنا»!
المشرق العربي يعيش اليوم خدعة تاريخية كبرى اسمها قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين وشعبها. لا تعني هذه الخدعة أن إسرائيل ليست سوى وهم، إسرائيل حقيقة مادية وقوة عسكرية كبرى، لكن الإسرائيليين يخدعون أنفسهم ويخدعون العالم ويخدعون عرب النفط بافتراضهم أن ما تحقق هو نصر نهائي، وأنهم ينفذون اليوم أمنية الجنرال البريطاني وهم يعلنون نهاية الحروب الصليبية على الطريقة الصهيونية.
الحرب لم تنته، لأن الدفاع عن الحياة والحق والأرض لا ينتهي. فما تشهده غزة اليوم، ليس سوى أحد فصول هذه الحرب المديدة الناجمة عن الجنون الاستعماري الذي يفترض بأن القوة العارية تصنع التاريخ وترسم الجغرافيا.
الغبار ورذاذ الدم يملأ أفق غزة، ورغم الغموض الذي أحاط بمعركة «وحدة الساحات»،
وهذا هو الاسم الذي أطلقته حركة الجهاد الإسلامي على المعركة، ورغم اكتشاف المقاومين أنهم وحدهم، وأن السلطتين الفلسطينيتين في الضفة وغزة ليستا معنيتين سوى ببقائهما في السلطة، فإن هناك مجموعة من النقاط الواضحة المعالم التي لا بد من الاشارة إليها.
المسألة الأولى تتعلق بالاسم: «وحدة الساحات»، وهو اسم دقيق ولا علاقة له بالاسم التشبيحي الذي أطلقته إسرائيل على عدوانها: «بزوغ الفجر». وحدة الساحات هو الرد على المشروع الإسرائيلي بتمزيق ساحات العمل الفدائي الفلسطيني؛ أي فصل الضفة عن القدس وفصل القدس عن الداخل الفلسطيني، بحيث تعود فلسطين إلى صفر ما بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، وسيطرة الاستسلام والتبعية على المستوى السياسي.
«وحدة الساحات»، لا علاقة لها بما يسمى «الوحدة الوطنية»، بل هي وحدة المقاومين في فلسطين. وليس غريباً أن يشعر المقاومون بأنهم وحدهم، وبأن عليهم أن يعيدوا رسم خريطة المقاومة بدمائهم.
هدف الغزوة الإسرائيلية هو تصفية كتيبة جنين وكتيبة نابلس وكتائب أخرى تتشكل في مدن الضفة المحتلة، فيتم فصل الضفة بشكل كامل عن غزة والقدس.
بعيداً عن الكلام المبتذل عن الإرهاب و»حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، على الطريقة الأمريكية، فهناك هدف استراتيجي واضح يسعى جيش الاحتلال إلى تحقيقه.
المسألة الثانية وتتعلق بتصفية أذرع إيران، كما يُشاع ويُقال، عبر تصفية حركة الجهاد الإسلامي. وهنا تقع المغالطة الكبرى؛ فحركة الجهاد ليست اختراعاً إيرانياً أو امتداداً للحرس الثوري، بل هي نتاج شرعي للمقاومة الفلسطينية. «الجهاد» هي ابنة الثورة الفلسطينية، وفي خطابها السياسي الكثير من الخطاب الفتحاوي الذي تخلت عنه القيادات التي تسلقت على فتح.
وسط العزلة الإقليمية الخانقة التي تعيشها فلسطين، فإن علاقة الجهاد بايران هو جزء من بحثها عن الدعم وسط ضجيج زمن التطبيع والانحناء والذل العربي.
المسألة الثالثة التي يجب التوقف عندها ملياً هي أن كتائب المقاومة في مدن الضفة هي نتاج عمل وحدوي يضم إلى جانب الجهاد كتائب شهداء الأقصى ومجموعات أخرى نبتت من الشعور بالفراغ السياسي وبالحاجة إلى المقاومة.
محاولة تدمير «الجهاد» تتخذ اليوم شكل محاولة تدمير وحدة البندقية المقاومة.
معركة «وحدة الساحات»، هي بهذا المعنى مفترق سوف يترك بصماته على المرحلة ويرسم معالمها.
ما يجري اليوم يشبه ما جرى بالأمس وما سيجري غداً. فإسرائيل لم تفهم ولن تفهم أن القوة وحدها لا تستطيع أن تحقق نصراً نهائياً. تستطيع القوة أن تنتصر في معارك عدة، ويستطيع المنتصرون أن يسكروا بقوتهم وبنجاحهم في قتل قادة فدائيين، ويقتحموا الأقصى، ويقتلوا، ويعتقلوا، لكن هذا لا يعني أن الأمور انتهت، وأنهم سحقوا شعباً لا خيار له سوى الدفاع عن وجوده.
الخطأ بدأ مع جنرال بريطاني أرعن اعتقد أنه استمرار تاريخي للحروب الإفرنجية التي هي مجموعة من الحروب الهمجية التي شكلت وصمة عار لا تمحى على جبين الهوس الديني والقيامي بالانتصارات.
إسرائيل كررت وسوف تكرر معاركها المجنونة، وستسفك الكثير من الدماء، وتتسبب في مآس لا عدد لها، لكنها ستجد نفسها في المكان نفسه الذي وجد فيه الاستعمار البريطاني وهو يأفل مع شمسه السوداء.
مهما فعل الصهاينة فلن يكون مصيرهم مختلفاً عن مصير الاستعمار الكولونيالي الاستيطاني الذي اجتاح إفريقيا في القرنين الماضيين. انظروا إلى جنوب إفريقيا واتعظوا.
لكن عبثاً، فالمنتفخ بالقوة لن يعود إلى رشده إلا بعد انهيار قوته، وعندها يكون قد فات الأوان.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن المقاومة اتخذت وستتخذ أسماء مختلفة، وستغير أشكالها تبعاً لتغير الأحوال.
علينا ألّا ننخدع بالأسماء والأشكال، أمامنا حاضر لا يتوقف عن استيلاد نفسه من الركام، هذا الحاضر المقاوم هو الموضوع.
هذه هي نقاط الانطلاق التي منها يبدأ النقاش من أجل بناء الحياة، وإعادة رسم أبجدية الصبر والصمود وسط خرائب التاريخ.