النظام العالمي الجديد بين جدلية نهايات التاريخ والتطور الأيديولوجي…
■ ذ. عبد الله بوصوف/الرباط
أعتقد ما يعيشه العالم اليوم من تسارع للأحداث بوثيرة رهيبة، ومن ترتيبات لنظام عالمي جديد، لما بعد أزمة كوفيد 19، واندلاع الحرب باوكرانيا في فبراير 2022، وأزمات الطاقة والحبوب والكهرباء ومطالب الانتقال البيئي والرقمي وغيرها… هو فقط حلقة جديدة من التدافع الفكري والفلسفي والسياسي والاقتصادي وليس بنهاية التاريخ والانسان الأخير.. كما جاء به الفيلسوف السياسي الأمريكي “فرانسيس فوكوياما” سنة 1992، عقب سقوط حائط برلين، سنة 1989، وانهيار الاتحاد السوفياتي، سنة 1991، وما تبعه من تداعيات على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري..
فـالـزخم السياسي الكبير التي عرفـه العالم عقب إنهيار الاتحاد السوفياتي، في عهد ميخائيل غورباتشوف، ورفعه لمشروع “البيريسترويكا” أو إعادة الهيكلة، والذي أنهى الحرب الباردة، وسمح بتوحيد ألمانيا… وهو الذي جعل “فوكوياما”، وغيره، يقولون بأن الديمقراطية الليبرالية، وما تحمله من مفاهيم عن الحركات الفردية والليبرالية والعولمة… هي آخـر شكل للتطور الأيديولوجي للإنسان… لكن سرعان ما انهالت عليه العديد من الانتقادات، والقراءات التي أبانت عن قصور شعار “نهاية التاريخ..”، حيث إنه في ظل نفس النظام الليبرالي، وتحت قيادة القطب الوحيد للولايات المتحدة الأميركية.. تعرض العالم لهزات خطيرة، كحرب البوسنه والهيرسك (1992/1995)، والحادث الإرهابي للحادي رعشر (11) من شتنبر بنيويورك سنة 2001، والأزمة الاقتصادية العالمية، سنة 2008.. وانقلابات بامريكا اللاتينية وإفريقيا، وحرب الخليج الأولى والثانية، وتداعيات الربيع العربي لسنة 2011، من هجرات جماعية نحو أوروبا، وصلت ذروتها سنة 2015.. وهي السنة التي عرفت ضربات إرهابية بفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا وغيرها… مهدت الطريق لأفكار أحزاب اليمين المتطرف ليصبح بديلا للأحزاب الكلاسيكية بدول الغرب.. وتُجْـهِـز على مكتسبات المهاجرين بدول الغرب الديموقراطي، وتُـروِج لشعارات الكراهية والخوف، خاصةً من المهاجرين المسلمين…
فكل هذه الاحداث، رغم سوادها وضحاياها ومآسيها أو منجزاتها ومكتسباتها… فهي تدخل في إطار التدافع، وحتى لا نقول الصراع الفكـري والعقائدي و الأيديولوجي… بدليل عجز الديمقراطية الليبرالية، اليوم، عن فك شفـرة الديمقراطية التمثيلية… وهو ما تعيشه فرنسا، اليوم، على خلفية أزمة قانون إصلاح التقاعد ولجـوء حكومة “بورن” للمادة 49.3، وعدم عرض القانون على البرلمان، فالرئيس الفرنسي يمتلك شرعية تمثيل الشعب عن طريق انتخابات مباشرة، وكذلك نواب مجلس البرلمان يمتلكون الشرعية نفسها للشعب ذاته… لكن البرلمان والنقابات والجمعيات تمكنت من إخراج الشعب ذاته للشارع، في احتجاجات عارمة ضد القانون.. بالمقابل لم يحرك الرئيس الفرنسي نفس الشعب لمناصرة قانون التقاعد..مما أدخل الديمقراطية التمثيلية في مأزق أو في أزمة ، كما وصفها العديد من المتتبعين…سواء في فرنسا أو البرازيل مع عودة اليساري “لــولا ” وعدم تقبل أنصار الرئيس السابق “جايير بولسونارو” لنتائج الانتخابات.. أو حادث “هجوم على الكابتول” في واشنطن الأمريكية…
والتدافع نفسن هو الذي خلق “حركة عدم الانحياز” في بلغراد ( يوغوسلافيا) سنة 1961، كنتيجة لأعمال المؤتمر الآسيوي ـ الافريقي بباندونغ ( اندونيسيا)، في أبريل من سنة 1955، للدفاع عن استقلال أعضائها و سيادتها، بعيدا عن حلفيْ وارسو والناتو العسكرييْـن…وهي الحركة التي سيخِـفُ صوتها، متأثـرا بنتائج نهاية الحرب الباردة، وبسيطرة القطب الواحد الأمريكي على معادلات التطور الاقتصاد والتفوق العسكري… كما نعتقد أن النسق السياسي/ الاقتصادي نفسه خلق فضاءات متنوعة للنقاش السياسي أو الاقتصادي أو المالي أو العسكري كمجموعات جـي 7 أو جـي 20، ومنتدى دافوس الاقتصادي ومؤتمر ميونيخ للأمن والمنتدى الاجتماعي العالمي…
لكـننا نحـاول نقـاش ترتيبات النظام العالمي الجديد لما بعد جائحة الكوفيد 19 من زاوية التدافع والتحالفات الكـبرى، لكن ليس باختزالها، فقط، بالحرب الدائرة الآن في أوكرانيا… مع التأكيد على أنها الحرب التي ستغير لامحالة من ترتيبات وأولويات النظام العالمي المقبل…كما نحاول تحديد مساحات مشتركة بين أسباب خلق حركة عدم الانحياز (رغم الخلفية اليسارية لأغلب مؤسسيها) من جهة، وخلق تحالف دول البريكس، من جهة ثانية… وهل سيعوض تحالف البريكس الجديد حركة عدم الانحياز..؟ وهل الانضمام للبريكس يعني الانسحاب الاوتوماتيكي من عدم الانحياز ..؟
ولعـل ما يدفعنا لهذا الاتجاه هـو الاعتقاد بتشابه البئية الحاضنة لخلق كل من الحركة والتحالف.. وهو مواجهة الغرب، بكل تجلياته الديمقراطية والاقتصادية والعسكرية والمالية… فحركة عدم الانحياز خُـلِقت أولا بأندونيسيا (آسـيا) في 1955، ثـم الإعلان الرسمي عنها في المعسكر الشرقي بيغوسلافيا في 1962.. إبان نيل العديد من البلدان الافريقية والآسيوية استقلالها… لكن لا يمكننا تصـديـق أن كل أعضائها الـ120 بـلـدا… كانوا في الواقع عــدم منحازين، سواء للتيار الشرقي/ الاشتراكي أو للتيار الغربي/ الليبرالي.. في حين أن منطق الأشياء يقول بانحيازهم للمعسكر الشرقي، لأنه لم يكن هو المُسـتعمـر للدول الأعضاء… لذلك فقـدت الحركة قوتـها منذ نهاية الحرب الباردة…
و في سنة 2009 أُعـلِـن من مدينة بيكين الصينية (آسـيا) عن تأسيس حلف “البريكس” مكون من خمس دول الصين وروسيا والبرازيل وجنوب افريقيا والهنـد… وهو تحالف يضم أكثر من 40% من سكان العالم ويشكل سوقا استهلاكيًا كبيرا، مع توفرها على مصادر الطاقة، واليـد العاملـة والتكنولوجيا، وتوفر عضوين على العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي، يعني توفرهما على “حق الفيتو”، كما يتوفـر التحالف على “بنك للتنمية”… وهي كلها عناصر جذب لانضمام دول جديدة للتحالف، مثل إيـران والجزائر وكزاخستان وفينزويلا… وهنا نلاحظ أن توقيث تأسيس “البريكس” كان بعد إنهيار النظام المالي الغربي والازمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008.. وأن الفاعل الرئيسي أي الصين، لم يكن ينتمي لا لتحالف وارسوا ولا لناتو… بل قَـبِل بـلقب المارد التجاري… خاصة توغلـه التجاري في إفريقيا وإحـياءه طريق الحرير بين آسيا و أوروبا و إفريقيا…
في المقابل، فإن العضو الآخر، أي روسيا فإنه يُـعد من رواد صناعة الأسلحة، بكل أنواعها، وأصبح منافسا لكل دول الغرب في السوق الأفريقية، ودول الخليج.. بل تدخل عسكريا في أزمة سوريا ونشـر سفنه في البحر المتوسط، وقاعدة عسكرية بحرية بالقادسية، وأخرى بالجزائر في القادم من الشهور…
وإذا كانت “حركة عدم الانحياز” قـد أفـل نجمها، بعد انهيار المعسكر الشرقي، في 1991، فإن تحالف “البريكس” استفاد من كل أزمات المعسكر الغربي… في أفغانسان وسوريا ولبنان وليبيا وليمن وجنوب إفريقيا الساحل… فقد لوحظ امتناع 35 دولة إفريقية عن التصويت ضد قرار أممي يدين تدخل روسيا في أوكرانيًا عسكريًا، في فبراير 2022… ولوحظ امتناع دول الأوبيك من الرفع من إنتاج البترول والغاز لتعويض الغاز الروسي… كما لوحظ تواجد مليشيات”فاغنـر الروسية” في سوريا وليبيا ودول الساحل جنوب الصحراء… وأكتشِفتْ درونات إيرانيـة مسلمة لـروسيا في الحرب الاوكرانية.. وسلمت أخرى للجزائر لتسليمها لانفصاليي البوليساريو بتندوف، في تهديد لزعزعة استقرار المنطقة بالكامل.
ففي الوقت الذي احتفلت فيه دول الناتو بانظمام دولة فنلاندا الحدودية مع روسيا، يوم 4 ابريل 2023، في انتظار انضمام السويد، وهو ما اعتبرته روسيا تهديدا لأمنها القومي.. فإن الصين، التي تقدمت بمبادرة سلام لإنهاء الحرب الأوكرانية، ثم خطة بديلـة للأمن العالمي… ستفاجئ العالم بإعلان مصالحة إيرانية / سعودية، بوسَاطـة صينية، وبعودة العلاقات الثنائية وتبادل السفارات… وهو ما كشف عن الوجه الآخر للصين، من وصفها بالمارد التجاري إلى الفاعل الديبلوماسي الكبير في العلاقات الدولية، وصولا الى المارد العسكري، من خلال إعلان عن نوايا تزويـد روسيـا بالسلاح فـي حربـها مع اوكرانيا، وتوقيع شراكات غير محدودة مع بوتين…وتكفي دلالات زيارة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” لموسكو يوم 22 مارس الماضي وتصريحاته حول دور موسكو وبيكين في قيـام النظام العالمي القادم …
أكثر من هذا، فقد وصفت منابر غربية العاصمة الصينية بيكين، بأنها أصبحت ملتقى الطرق، ومزارا سياسيا واقتصاديا، فبعد زيارة سانشيز الاسباني.. جاء دور الرئيس الفرنسي ماكرون رفقة رئيسة المفوضية الأوروبية “اورسولا فون دير لاين” يوم 6 أبريل الجاري.. واليوم نفسه عرف إجتماع وزيريْ خارجية كل من السعودية وإيران بيكين.. كما تنتظر بيكين زيارة المستشار الألماني أولاف شولـز حسب بعض المنابـر الإعلامية…
إن تسارع الأحداث حول حرب أوكرانيا ومآلاتهـا بين الاستمرار المدمر ومحاولات السلام الصعب… سيعجل بيمـلاد نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب.. وبفاعل جديد، أي الصين، الذي طرح تصوره في ميادين الاقتصاد والسياسية والسلام الدولي.. هو ما يـدعـو الدول الإفريقية، ودول الجامعة العربية، إلى الرفع من قـوتـها التفاوضية، في مواجهة تلك الأقطاب الاقتصادية، والعسكرية، وتحديد أهدافها وتحالفاتها الاستراتيجية.. تتماشى مع رصيدها التاريخي، ومواردها الطاقية والمعدنية وعنصرها البشري.. بعيدا عن أجندات تدميرية بالوكالة أو لقاءات مجاملة تحت شعارات عـدم الانحياز… تستغلها بعض الدول لشراء ولاءات تهـدد السلم، وسيادة واستقـرار المنطقة… لأن النظام العالمي المقبل لا يعني نهاية التاريخ، بل هو شكل جديد للتطور الأيديولوجي لمفاهيم الديمقراطية والحريات والنظم الاقتصادية و العولمة…
يتبع….