الكاتب العراقي عبدالزهرة زكي يكتب: يوم واحد لحضارة الشعر
حسناً إذاً أن يحظى الشعرُ بيومٍ واحد في التقويم السنوي للبشرية.
لقد أُريدَ بهذا اليوم تكريمُ الشعر فحصل أن يكون هذا تعبيراً، ربما غير واعٍ، من عقل المجتمعات البشرية على عزل الشعر والنأي به في زاوية، حتى وإن كانت ربيعية، من الزوايا الثلاث مئة وخمسة وستين يوماً التي تقيم فيها حياة الناس والأشياء والثقافة في كل عام.
في تاريخ الشعر كانت دائماً ما تظهر جهود شعرية مكرَّسة من أجل أن يكون الشعر، بموجبها أو بموجب ادعاءاتها، كوكباً آخر، ويحيا في الخارج من (أسر) الزمن. لكن الشعر ظلّ، بحياته الخاصة، وثيقَ الصلة بالحياة التي تجري حواليه، فاعلاً ومفعولاً به.
كانت هذه جهوداً في العمق من حضارة الشعر. وكانت هذه حضارة تعمل في ما هو غير مرئي من الحياة الإنسانية؛ في دواخل الإنسان، في وجدانه.
دائماً كانت الحياة في إطار الزمن تتغير، انتكاساً وتقدماً، توثّباً وتراجعاً، موتاً وميلاداً، فيما كان الشعر، بوجهه الأعمق صدقاً، حارساً وحافظاً أميناً لقيم الروح، ونائياً بها عن تقلّبات الزمن والحياة وحياة الإنسان فيهما. تلك هي بعضُ أدوار حضارة الشعر التي تقيم فيها أرواح بشر حالمين وهائمين ومنبوذين، موتى وأحياء، عن مباذل التاريخ، إنهم البرق المتخاطف في الخارج من الزمن، في طواف لا ينتهي، ولا يقرّ له قرار في فضاء هذا الكوكب الأزرق.
كنتُ خلال هذه الأيام أقرأ في كتاب (تاريخ آداب العرب) لمؤلفه مصطفى صادق الرافعي، وهو مما صدر في أربعينيات القرن الماضي، فصادفتُ أنّ المؤلف، وهو من طليعيي النهوض العربي، لم يجد الجرأة الكافية ليتبنّى قوله في ثنايا الكتاب:”لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكاناً تشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر”. لقد (وهب) هذا القول وهذه النتيجة إلى (أحدهم)، وكان بمعرضِ كلامٍ عن الشعراء العرب القدامى ممن كانوا مفتونين بالفلسفةِ من خلال الشعر. وكان الرافعي بهذا يعمل بمبدأ حِيل التأليف، لدى العرب وغير العرب، وهي حِيَلٌ يقول المؤلفُ بوساطتها الفكرةَ والرأي والمعلومة، ولكن ليرميَ بها على ذمّةِ مجهول (أحدهم) وذلك كلّما كان هيّاباً في قولها متردداً في تبنّيها.
هذه الحيلة تضارع، بإجرائها، ما كان يعملُه الشعرُ، عبر تاريخه، حين كان يجترح لنفسه لغةً في الداخل من اللغة البشرية المتداولة، ليجد فيها حريتَه لقول ما لا يمكن للغة قولُه. هكذا استمرت أطيافُ حضارة الشعر بموازاة حضارة ووحشية الحياة البشرية.
لقد ظلّ الشعرُ يقول ما لا يمكن للآخرين، غير الشعراء، قوله. ما كان ينبغي للشاعر قول ما يقوى الآخرون على قوله، كان الشاعر دائماً يترك مساحة للآخرين ليمضوا من خلالها في حدائق الكلام، للشعر من الغنى ما يجعله زاهداً بالمساحات التي يمكن لغير الشعر بلوغها. لقد كان الشعر يقيم دائماً في الزاوية الأنأى من القول، تلك التي لا يراها آخرون سوى الشعراء. وكان هذا مبرر دوام الشعر.
تضيق الزاوية، من منظور العالم، حتى جرى التفكير بيوم للشعر، وتستمر الزاوية تتسع بمنظور الشعراء، حتى ليفكر الشاعر زاهداً بالقمة التي يمكن للآخرين بلوغها، القمة التي يريدها الشعر هي التي لا سبيل إليها.