لماذا وافقت إسرائيل على الهدنة؟
إذا أردنا أن نجيب بشكلٍ عام عن هذا السؤال، فإن إسرائيل قد تراجعت عن مواقفها السابقة، ورضخت للضغوط التي أحاطت بها من كل جانب.
في مقدمة هذه الضغوط، وأهمها على الإطلاق الضغوط الداخلية، والتي باتت تنذر بالتحوّل إلى حركة احتجاجٍ عارمة، بعد أن فشلت إسرائيل باستعادة أسراها، بالرغم من كل محاولاتها المحمومة، وبالرغم من كل التدمير والقتل والإجرام الذي مارسته على مدى أكثر من ستّة وأربعين يوماً من الهستيريا الجنونية، وأكثر من أسبوعين كاملين من الحرب البرّية التي كانت تعوّل عليها تحديداً في استعادتهم، أو استعادة ما يمكن الاعتداد به منهم.
وبهذا المعنى المحدّد فإن قبول إسرائيل بالهدنة من هذه الزاوية هو عنوان فشل، لم تستطع وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تتجاهله أو تُخفيه، ناهيكم عن أنّ بعض هذه الوسائل قد “نكّل” بالحكومة ورئيسها، وبـ”المجلس الحربي” كلّه، وبشكل تجاوز “حُرمة” حالة الحرب الدائرة، وتعدّى مرحلة اللوم والعتاب والانتقاد، ووصل إلى التقريع والتهكُّم والاستهزاء.
وفي أغلب الظنّ، أيضاً، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها الكثير من بلدان “الغرب”، وأمام موجات مناهضة الحرب الإبادية التي تشنّها دولة الاحتلال على القطاع، وحالة الجنون التي تمارسها على الضفة، وإعطاء المستوطنين سلطة أخذ “القانون” بأيديهم..
أغلب الظنّ أنّ نتنياهو قد تجاوز كلّ الحدود الزمنية التي أُعطيت له لتحقيق أيّ “إنجازٍ” في مجال استعادة ما يمكن استعادته منهم، وأصبح هو وطاقمه الحكومي والعسكري مجبرين على الموافقة على هذه الهدنة، وذلك لأنّ “وضع” الحلفاء بات في غاية الحرج، والمسألة الإنسانية باتت على أعلى درجات الحساسية، والشوارع “الغربية” يزداد ضغطها بشكلٍ غير مسبوق، وأصبح “الجمهور” الغاضب والرافض لهذه الحرب يعيد حساباته لما هو أبعد من وقف الحرب، ولما هو في خلفية الإصرار عليها، والاستمرار في الذبح والتدمير، وبما يتجاوز كل حدود، وكل خطوط الإجرام التي شهدتها كل حروب “الغرب” بعد الحرب العالمية الثانية.
وبات “الغرب” مُجبراً على أن يعمد إلى هذه الهدنة، وإلى هُدَنٍ أخرى قادمة تحت وطأة ثورة الشوارع “الغربية”، وبات يحتاج إلى محاولة التخفيف من هذه الوطأة، وامتصاص الدرجات المتصاعدة من الغضب، وتفادي ما يمكن أن يكون أسوأ بكثير من مجرّد التعاطف مع الشعب الفلسطيني.
لقد اشتمّ “الغرب” أنّ ثمة حلفاً شعبياً غير مسبوق بات قيد البناء، أو هو في طور النشوء وبداية التكوين ما يهدّد كل ما حاولت الولايات المتحدة أن تبني لتحالفٍ جديد ضد “الإرهاب” حسب التعبيرات “الأطلسية”، وهو الحلف الذي صادق على الإبادة الجماعية وجرائم الحرب المفضوحة والمفتوحة.
ويبدو أنّ الرئيس جو بايدن، وهو أكبر الخاسرين من هذا الحلف الشعبي الرافض للإجرام والإبادة، والمطالب بوقف الحرب، والذي سيذهب إلى أبعد من ذلك في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية.. يبدو أنّ بايدن قد فرض على حكومة الاحتلال ما كانت تقول إنها لن تتراجع قيد أُنملة عن استعادة الأسرى بالوصول إليهم وإرجاعهم بالقوة، وفي إطار تدمير البنى العسكرية للمقاومة التي تحتجزهم.
كما أنّ الخسائر الكبيرة التي تتكبّدها القوات الإسرائيلية المتوغّلة في محاور عدّة من قطاع غزة، وفي مدينة غزة باتت تضغط هي بدورها على الحكومة وعلى “مجلس الحرب”، حيث يتحوّل عامل الوقت، واستطالة الحرب، وتفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع إلى ضغطٍ هائل متعدّد الزوايا والاعتبارات، وحيث تتحوّل هذه الخسائر إلى قوة دفع معاكسة ليس للرضوخ إلى مثل هذه الهدنة، وإلى هُدَنٍ لاحقة، وإنّما بات الخوف مع تفاقم هذه الخسائر من أن ينتقل الأمر إلى إنهاء الحرب، والذهاب إلى وقف كامل لإطلاق النار، قبل أن تتمكّن إسرائيل من تحقيق أيّ من أهدافها، وهو ما سيعني في حالة حصوله الخروج من هذه الحرب بهزيمةٍ مُدوّيةٍ مع مرتبة العار الأولى في قتل آلاف الأطفال والنساء، وتدمير عشرات آلاف الوحدات السكنية على رؤوس أصحابها، إضافة إلى “بطولات” خارقة لجيش الاحتلال في تدمير المدارس وأماكن الإيواء، والمساجد والكنائس والمستشفيات، وقتل المرضى وإعدامهم على أسرّة الاستشفاء.
كلّ هذه الأسباب تقف في خلفية الموافقة الإسرائيلية على هذه الهدنة، وعلى ما هو قادم من هُدَنٍ أخرى، حتى إنهاء ملفّ الأسرى المدنيين على الأقل، لأنّ الشارع الإسرائيلي لا يستطيع فتح ملفّ الأسرى العسكريين طالما أنّ الحرب ما زالت تدور، كما أنّ هذا الأمر ليس مقبولاً من الناحية السياسية والمعنوية في ظروف هذه الحرب، وفي ظروف أي حربٍ على الإطلاق.
ثمة فرق كبير بين أن يُقتل الأسرى المدنيون جرّاء العمليات العسكرية الإسرائيلية، أو أن يُقتل الأسرى العسكريون جرّاء مثل هذه العمليات.
والمسألة ليست مقبولة في الحالة الأولى، خصوصاً أنّ المقاومة أبدت رغبتها منذ البداية بـ”التساهل” في إطلاق سراحهم، لكنّها أكثر تقبُّلاً في الحالة الثانية، لأنّ العمليات العسكرية حسب الكثير من الاعتبارات المعمول بها عالمياً تحتمل “التضحية” بالأسرى العسكريين في بعض الحالات.
كما أنّ شروط إطلاق سراح الأسرى العسكريين لن تتم حسب موقف فصائل المقاومة بأقلّ من تصفير وتبييض السجون الإسرائيلية من أسرى الحرّية.
ومع كلّ ذلك فإنني أرى أسباباً أخرى لقبول الهدنة من الجانب الإسرائيلي، وهي على شكل خدعة ومكيدة، أكاد أجزم بأنها باتت الهدف الأهمّ لإسرائيل بعد “إنجاز” صفقات التبادل، سواء شملت الأسرى العسكريين، أم لم تشملهم، وفي إطار الوقت الذي أُعطي لإسرائيل من قبل الإدارة الأميركية.
دعونا هنا نفرّق بين الوقت الذي أُعطي لإسرائيل من أجل استعادة الأسرى، وبين الوقت الذي أُعطي لها من أجل تدمير البنى العسكرية لحركة حماس وبقية الفصائل، ومن أجل “فرض” واقع سياسي جديد في القطاع حسب الأهداف المعلنة لإسرائيل، وللولايات المتحدة على هذا الصعيد.
تتصوّر إسرائيل ــ كما أرى ــ أنّ المعارك ما بين الهُدَن ستؤدّي من بين ما ستؤدّي إليه إلى “عزل نسبي” ما بين أكثرية نسبية من السكان المدنيين وما بين المناطق التي نعتقد بإمكانية ضربها بقنابل لم تستخدمها بعد، والوصول إلى الأنفاق، أو تدميرها دون أن تكون المذابح الإبادية هي المظهر الرئيس للقصف.
ولن يكون مستبعداً والحالة هذه أن يتمّ “اختصار” الزمن المطلوب لإنجاز هذا الهدف، أو المحاولة باتجاهه.
لم يعد الهدف الإسرائيلي، الآن، إطالة أمد الحرب، وأصبح الوقت جزءاً حيوياً من هذه الحرب، وأظنّ أنّها تسارع الخُطى للوصول إلى المرحلة الجديدة من التدمير بأسرع وقت حتى لا يظلّ الاستنزاف للقوات الإسرائيلية قائماً ومستمرّاً.
ويمكن أن يكون من بين الأهداف الأخرى للبدء بهذه المرحلة من القصف والتوغل الشامل هو قتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين كلما تعثّرت الخطة، باتجاه الحسم كعامل إضافي للضغط على فصائل المقاومة إذا لزم الأمر.
لن توافق إسرائيل على تتالي الهُدَن إلّا لهذه الأسباب، أما إذا تحوّلت الهُدَن إلى “الممرّ الإجباري” للوقف الشامل لإطلاق النار فإنّ الولايات المتحدة في هذه الحالة تكون قد حسمت أمرها بالتراجع، والتوقُّف عند نقطة معينة، تعتقد أنّها ستكون كافية لاستعادة الردع الإسرائيلي، ولو جزئياً، لكي تحاول ترميم وضع الإقليم بما ملكت أيديها وبالقدر الذي استطاعت إسرائيل أن تقدّمه لها، وهو قليل على كلّ حال من وجهة نظر هذا الترميم.