انطفاءُ صمت منارةٍ منيرةٍ..المصطفى مفتاح يكتب: في حضرة إبراهيم ياسين
هو خريف العمر ربما ولكنني ودعت أكثر من نصيبي من الذين اصطفوني واصطفيتهم لرفقة لا منتهية ثم اضطررت مخذولا للوداع. والرحيلُ قاسٍ يمتد في الحشاشة صارما وفاجعا.
ها أنذا أودع الرفيق-الركيزة إبراهيم ولا يرشح من الكلامِ إلا كلامٌ لا يقوى على بلاغةِ الفقد. أي نعمْ لقد رحلَ عنا الشافعي، رحلتْ عنا ابتسامتُهُ المُقَتِّرَةُ فَحلَّ في الأفقِ والمدى صمتٌ قاطِعٌ صقيعُهُ شاهقٌ شاهدٌ ينعى منارًةً ترحلْ، ُبرجًا أنارَ كل هذا الدرب الذي حمل الربيع إلينا وأسماءَ الربيعِ أشواَكَهُ وأشواقَهُ منذ انتفاضة الربيع في 1965.
انطفاءُ صمت منارةٍ منيرةٍ انهدّتْ كانت تضيءُ في تواضع جمٍّ مُصرٍّ ثابتٍ حازمٍ متحفظٍ مُحترِمٍ مُحترَمٍ محطاتِ هذي المسيرة التي اختارت لها من الأسماء الصغيرة “ب، 23 مارس، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، حزب اليسار الاشتراكي الموحد والحزب الاشتراكي الموحد”، هذه المسيرةُ الربيعُ-الوعدُ الذي لا ينتهي.
كان يأتينا صوتُه الخفيضُ بليغاً فصيحاً من الصفوف الخلفية للمؤتمرات والاجتماعات الحاسمة والعادية فنصيخ السمع جيدا لأن السي ابراهيم يتكلم: فادخلوا أيها الخارجون للتدخين والتعليق ومراقبة دوركم في الكلامِ الطَّازجِ بالبلاغةِ الناصعةِ الفقاعاتِ واستمعوا في هدوءٍ وصمتٍ.
فننصتْ!ْ.
كان إصراره على رأيه إصرارا على احترام الرأي الآخر المخالِفِ وواجب التعبير عنهُ وواجب الاستماع يرمزان لبساطةِ وصرامةِ وسهولةِ وتعقيداتِ المسؤولية التي لا تحبُّ الكلمات المهووسة بالجلَبَةِ الطنّانة ولا كان هو يحب المنصات.
كم مرة كم دورة كم جدولا للأعمال
رفيقنا العزيز ها أنت جمعتَ تدخلاتك المقتضبة البليغة في الوريقات الصغيرةِ المربّعات وكابدت المرض في جَلَدٍ مكابرِ الكبرياء منذ أشهرٍ ثمَّ ابتسمتَ واسترحتَ حين آنَ أوانُ الرحيلِ لأكوانك الُأخرْ. كنت منارة برجا وما ولا تزال في عليائك البسيطة.
وداعا أيها القائد المتواضع العظيم أيها الرفيق الفذ ابتسم بحكمتك المعتادة وارحل في هدوء. أنت الذي بقدر ما كانت ابتسامتك القليلة تدلف نحونا مباشرة على خط مستقيم بقدر ما كانت ضحكتك النادرة تأتي مواربة متعرجة.
لعلنا جميعا كل واحد منا على حِدَة نخطئُ حين نُصيبُ ونعتقدُ أن علاقتنا بالسي إبراهيم متفردة مخصوصة لا تنتهي ونعرف علم اليفين أننا نمتلك كنزا متميزا ثمينا كل واحد منا، نصيبهُ لوحده في جدلية فريدة.
كان الربان الصاريَ الوحيد في تجربتنا الذي يمقت أن يكون له أتباع ويحب الرفاق رفاقا لهم آراؤهم وتقديراتهم تتقاطع أو تتباعد مع آراءه وتقديراته.
شديد الانضباط لرؤيته والاستماع المتمعن لاختياراته المُعرِض كل ما كان ذلك ممكنا عن السجال والصراع حتى الرفاقي منه يجتهد في محو حِدَّةٍ تطل في مخارج التحاليل والتدخلات يلفها بعناية في الابتعاد الصارم عن “البوليميك”. يبادر في المحطات الصعبة دون ضجيج ولا يهاب في مبادراته الخطأ لأن الفعل في الظروف الدقيقة أحسن بكثير من حكمة التحليل العميق الدقيق الكسول المتروية أخماسُها على أسداسِها والمناسبةُ شرطٌ لا يمهل إلا حين لا يكون هناك استعجال ولا يهمِلْ.
هكذا أفلت من الاعتقال، ولعلني أراه يقرع باب الشقة يفتحها قيد وعصابة ودعوة لئيمة للغياب وراء القضبان والأسوار فتنبري بذلةُ مساعدِ البقال يستفهم عن قنينة الغاز فينهرك متربص “الفرقة الوطنية” فتنتهر وتنزل الدرج لا تلوي على شيء وتتركهم يعضون أصابع الندم.
وألتقيك في شارع مركزي في الرباط بجاكيتة من الجلد الأسود الفاخر لا تثير الانتباه إلى انتباهك واحتراسك الشديد للمارين قربك وعكسك أو في نفس اتجاهك، ترشدك بديهتك غير مبالية بقواعد الاحتراس لتشير على بإخبار الرفاق في البيضاء بالاعتقالات وضرورة تحصين ما تبقى من التنظيم وتحدد موعدا قارا كل نهاية الأسبوع وتخلف الميعاد لأن “الفاسي” اقتنصني لدرب مولاي الشريف.
كان ذلك ثاتي لقاء بيننا بعد الأول الربيعي حين أتيت تشركنا فيما جرى في ندوة أبريل 1974.
تشرف على تنظيم خروج الرفاق إلى الجزائر، ثم باريس حيث تعتمد على نفسك حتى لا يبقى الحمل كله على الرفيق” بنسعيد”.
هذا الشافعي شجع وساهم في بناء وحدة يسارية تساقطت تباعا رغما عنه ورغما عن التوحيد وشجع وساهم في محاولة بناء تقاليد حزبية ديمقراطية انقلبت طوائف أو انتعشت زوايا ولم يتخل عن نظرة هادئة باسمة حكيمة نفتقدها. لعل آخر عناوينها فضيلة التعاقد للقيادة التنفيذية وحرية الرأي وحق التمثيل في القيادة التقريرية.
لم تكن دائما متساهلا ودودا ولا مستعدا لما قد يتبدى من سبيل آخر للوصول إلى الهدف.
كنت حاضرا منتجا في كل مسارات التقاربات مع عدد من الفعاليات المناضلة “الجذرية” سواء منها النشيطة داخل أحزاب “الصف الوطني الديمقراطي” الملتئمة آنئذ في “الكتلة الديمقراطية” أو المنتمية الى تجارب “الحركة الماركسية-اللينينية المغربية” أو العاملة في منظمات المجتمع المدني المهتمة خصوصا بالدفاع عن حقوق الانسان
بعد ذلك توطدت العلاقات أكثر في مساريين متوازيين مع “حرزني” من جهة، في استمرار لعلاقة لم تنقطع منذ السجن المركزي بالقنيطرة وكان “الشافعي” الذي أصبح فقط “إبراهيم ياسين” يصونها ويطورها حيث ستلتقي مع اللبنات الأولية للمسار الآخر التوحيدي عبر مجلة “الميدان” التي ساهم في إطلاقها “حرزني ” و”عبد القادر الشاوي” و”حسن السملالي” (مديرا) و”مصطفى السليماني” و”أحمد حبشي، ثم مع “الوفاء للديمقراطية” التي نضج التقاطع معها على نار هادئة منذ 1992. ثم تتابع مسار بوزنيقة إلى نهايته فتأخد المشعل.
لم تبد يوما شيئا من الندم لأن الأمور لم تتطور في الاتجاه المأمول لكنك كنت تفضل المناضل المحاول لا القائد الذي يحسبها عشر مرات أو مائة.
تفرد خطابك بضمور التنظير لصالح الاختيارات العينية للممارسة ليس عجزا ولا خضوعا لتراتبية تدفع النظرية للخلف ولكن لأنك تؤمن أن المقام شرط للمقال وأن استعراضا طاغيا للأصول والفصول والبراديغمات والمنطق والغاية البعيدة المجردة إجحاف في حق الاجتهاد الفكري حين يحتاج الرّوِيَّةَ والمجال الملائم المساعد على النقاش والجدل والتبادل.
تلك ترجمة أخرى لإصرارك على حمل وتحمل همنا كمشروع وقضية ومؤسسات والرفاق. تحمله دونما تبرم أو ببعضه ودونما إفراطٍ أو تفريط ودون أن تدعي لنفسك أسبقية بالنتيجة في جدول الأعمال. ولطالما ظلمتنا بتركيزك على الأهم في كل لحظة تسطره بحروف صغيرة في أوراق جائلة قصيرة ثم تطويها بعناية في جيوبك السرية وتركن للخلف والانصات.
تضج ضحكا سريا ونحن نحاول أن نفك طلاسم جديتك ولا تبتسم إلا لماما وفي ركن قصي من نظراتك المستقيمة. تداعبنا ونحن لا ندري ولا تسخر من عاداتنا الصغيرة وتسرعاتنا.
رفيقنا فقيدنا الفذ نحن الآن في حضرتك حزانى فخورون بما زرعت فبنا من وعود فطوبى لك في أكوانك السرية وطوبى لنا بالطيبات من ذكراك.