الرئسيةرأي/ كرونيكفكر .. تنوير

كمال عبداللطيف يكتب: دفاعاً عن الأنوار

بقلم المفكر المغربي كمال عبداللطيف

نتصوّر أنّ التفكير مُجدّداً في فلسفة الأنوار، وفي مُقدّماتها الكُبرى، سواء في مواطنها الأولى أو في المجتمعات التي انتقلت إليها، ومن بينها المجتمعات العربية، التي ما زالت تتطلّع إلى ترسيخ قيمها.

يتطلّب أن نأخذ بعين الاعتبار مُختلفَ المُستجدّات التاريخية والنظرية التي ارتبطت بأسئلتها، ومختلف الآثار والنتائج التي لحقت بمنظومة قيمها في سياقات التاريخ المختلفة.

وإذا كنا كمال ، وأنّ أسئلتها اليوم تطرح في العالم أجمع، ما يدعو إلى ضرورة مواصلة النظر في مختلف القيم التي ظهرت في التاريخ. ننطلق في ذلك من وعينا التاريخي بأبرز الإشكالات المُرتبطة بتبلور مشروع الأنوار في أوروبا القرن 18، ومن وعينا أيضاً بأنّ جوانب مُهمّة من مُقدّمات هذا الوعي، وحزمةً مُهمّة من القيم التي بناها ودافع عنها، ترتبط بمآزق اللاّهوت والمؤسّسات الراعية له، وكذا إشكالات التدبير السياسي في عالم لا يتوقّف عن التغير.

ويمكن أن نشير هنا إلى أنّ الانتقادات التي وضعت حدوداً للتنوير وخطاباته، ترتبط بمجمل التحوّلات المُؤسِّسة لأفق النقد الجديد في تاريخ الفلسفة، نقصد بذلك تحوّلاتِ التاريخ والسياسة، وتحوّلاتِ الفكر والمجتمع، المُواكِبةَ لكلّ ما ذكرنا.

إذا كان إيمانويل كانط قد أبرز، في كتابه “الدين في حدود مُجرّد العقل”، أن المؤسّسات الدينية تُعَدُّ بمثابة بُؤرٍ للاستبداد الروحي، وأنّها تساهم في تدمير الحرية، فنحن مطالبون اليوم في ضوء التحوّلات الجديدة، التي لحقت بالدين وبمؤسّساته طيلة القرنَين الماضيَين، بمواصلة التفكير في حرّية العقيدة وفي الدين المدني، من دون إغفال التفكير أيضاً في المؤسّسات المرئية أو اللامرئية ذات الصلة بالمجال الديني، وكذا التفكير في صور العَودات الجديدة الرامية إلى استحضار المُقدَّس بصورة مُكثّفة، وتبرير استمراريّته في حاضرنا، في صور وأشكال لا حصر لها.

أصبح هناك جيل من الأنواريّين المُسلّحين بالمكاسب الجديدة لدروس الفلسفة والاجتماع، لا يتردّد في قبول فكرة أهمّية وحيوية الدين في المجال العمومي، كما يتّجه آخرون إلى الدعوة إلى ضرورة تطوير منظومة الأنوار، ومواصلة التفكير والبحث في الحريّة والعدالة، الأمر الذي نتصوّر أنّه يمكن أن يساهم بقوّة في تطوير عقلانية الأنوار ومنظومتها القِيَمِيَّة. ويمكن أن نُدرج ضمن هذا السياق، بعض خيارات يورغن هابرماس، المُرتبِطة بعقلانيّته التواصليّة بديلاً من العقلانية الأداتية، التي تعرّضت لكثير من النقد في القرنَين الأخيرَين.

تسمح لنا العودة إلى التفكير مُجدَّداً في فلسفة الأنوار، بالتذكير أولاً بمواقف الأنوار من الدين؛ بمواقف كلٍّ من فولتير وجان جاك روسّو وكانط وهابرماس، وهي مواقف مختلفة من أجل مواصلة التفكير في الأنوار في الحاضر الكوني، مع ضرورة التمييز بين مَطلَب الدين المدني، ومَطلب تحرير الدين في ثقافتنا ومجتمعنا.

كما نعتقد أنّ إعادة التفكير مُجدَّداً في العلمانية وأسئلتها في الحاضر العربي، وهو موضوع مرتبط بالأنوار والتنوير، يعكس اليوم جوانبَ من أوجُه الصراع القائم في مشهدنا السياسي، نقترب منه ونفكّر فيه انطلاقاً من المآثر التي رتَّبها في مجتمعات أخرى قبلنا، مع محاولة للتخلّص من النظرتَين الاختزالية والإسقاطية السائِدتَين في هذا المجال.

ولن يحصل ذلك من دون سندٍ تاريخيٍّ يعي جيداً مختلف تلوينات المفهوم، تعدّديته، ومختلف الصور التي اتّخذها طيلة مراحل تشكُّله المتواصلة في التاريخَين الحديث والمعاصر، مع عدم إغفال مسألة النظر في أنماط علاقته بموضوع الدولة وموضوع الدِين. ولا يتعلّق الأمر هنا بالدولة والدِين في صورتيهما المُجرَّدتَين والمُتعاليتَين، بل بنمط الدولة الوطنية الحديثة، وهي تنشأ في محاولة ضبط المجال العامّ، بما في ذلك مقتضيات الشأن الديني الدنيوية والغيبية.

كما يتعلّق بالدِين وقد اتّخذ في التاريخ صورةَ مؤسّسات حاضنة وراعية لكثير من الطقوس والسلوكات، إنّه يتعلّق بالكنيسة ومراتبها وأدوارها التاريخية، كما يشير أيضاً إلى كلّ ما ترتَّب من مختلف أدوارها في المجتمع والثقافة، بما في ذلك الحروب الدِينية، وتجارب الإصلاح الدِيني، وما تولَّد من ذلك كلّه من إرهاصاتٍ صانعةٍ لجوانبَ من ملامح المجتمع الجديد.

ويمكن أن نضيف إلى ما سبق كلّه، أنّ مسألة العلمانية تتعلّق بتجارب أخرى، بمعطيات ومؤسّسات مختلفة عن مؤسّسات المسيحية واليهودية في التاريخ.

نحن نشير هنا إلى واقع الحال في مجتمعاتنا. إنّنا نشير إلى مؤسّسة المسجد ومجلس العلماء وهيئة الإفتاء، كما نشير إلى الزوايا والطرائق الصوفية وأضرحة الصالحين، وإلى جمعيات الإحسان الخيرية، كما نشير إلى القائمين على ما ذكرناه كلّه، والمُدبِّرين صناديقه ومواسمه وثقافته، وأبعاده السياحية والتجارية بأسمائها المختلفة، وعلاقة ذلك كلّه بالدولة ومؤسّساتها. كما يمكن أن نذكر صراعات المذاهب والتأويلات، وكلّها قضايا تتيح لنا إمكانية إعادة التفكير في التنوير انطلاقاً من قضايا ومؤسّسات وفضاءات وتاريخ،

رغم أنّ الأمر في العمق يرتبط بالجذور والأصول المشتركة بين الأديان كلّها، والتي يحرص الجميع على إخفائها والسكوت عنها، ليوفّر كلٌّ لعقيدته ما يمنحها تميّزاً يُبعدها عن الديانات الأخرى وعن ديانات التوحيد.

ونتصوّر أنّ استحضار المُشترَك في ديانات التوحيد والكتاب، وباقي الديانات، يساهم في محاصرة انتقادات ومواقف الذين ما زالوا يرون في ما حاولنا تشخيصه كلّه من مُعطيات واقعية ونظرية، جملةً من المعطيات الوافدة، التي تخصّ الآخرين وحدهم، وذلك رغم مُحايثتها لتاريخنا واستمرار حضور تجلّياتها في حاضرنا.

يترتّب من سياق ما كنا بصدده القول إنّ حاجتنا اليوم إلى التنوير ترتبط بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بكيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية.

وإذا ما كنّا نعرف أنّ المبدأ الأكبر، الذي وجّه فكر الأنوار يتمثّل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، وفي السعي إلى إبراز قدرته على تعقّل ذاته ومصيره، بهدف فكّ مغالق الكون والحياة، فإنّه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمّية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكانَ الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤوليةَ صناعة حاضره ومستقبله.

إنّ حاجتنا اليوم لقيم التنوير تحدّدها، بكثير من القوّة، شروط حياتنا في المجالَين الثقافي والسياسي، فيصبح توسيع فضاء العقل والنقد، مجالاً للجهد الذاتي الخلّاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ، التي تتيح لنا الخروج من مأزقٍ مُرتبِطٍ بإرثٍ تاريخيٍّ، لم نتمكّن من تشريحه ونقده تمهيداً لإعادة بنائه في تفاعل مع مُتطلّبات عصرنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى