سمتان للعقل العربي
كان العرب قديماً لا يهتمون بالتوثيق، وكل ما وصلنا عنهم شفاهة؛ إما بالتواتر أو بالعنعنة، وما وصلنا منهم كان إما شعراً أو نثراً (خطابة) أو أمثلة شعبية، وهذه الأصناف الأدبية كانت إما مدحاً أو ذماً أو هجاء أو رثاء أو مفاخرة أو غزلاً.. بمعنى أنها كانت تخاطب القلوب والعواطف والوجدان، وأقل القليل ما وصلنا على شكل حكمة، أو دراسة، أو نقد، أو بحث، أو تحليل.. أي ما يخاطب العقول ويحث على التفكير، فهذا النمط من الكتابة والخطاب لم يكن شائعاً، باستثناء ومضات قصيرة تمثلت في الفلسفة (الفارابي وابن سينا وابن رشد..) وعلم الكلام (المعتزلة) وبعض تمظهرات الهرمسية (إخوان الصفا).. وهؤلاء سرعان ما غلبهم الفقهاء وأصحاب مدرسة النقل والعنعنة وتقديس النص.
وفي تلك المراحل المبكرة كانت اللغة العربية قد بلغت أوج نضوجها، ومعها ظهر علم البديع، وتطور السجع والشعر، وظهرت محسنات لغوية إضافية كالجناس والطباق والمقابلة والمبالغة والإغراق والغلو وما يعرف بزخرف القول، فتفوق الشكل على المضمون، بل وهمشه جانباً، وصارت اللغة (كتابة وشفاهة) من أهم مكونات العقل العربي ومرجعية تفكيره، والتي أيضاً صاغت التكوين النفسي والفكري والوجداني للإنسان العربي، فصار أحسن الناس أحسنهم شعراً ونثراً وفصاحة وخطابة، وصار بوسع قصيدة أن ترفع شأن قبيلة أو تحط منها.. واليوم استبدلناها بالشعار.. ومن ذلك الوقت صار ممكناً القول إن العرب ظاهرة صوتية، وهي المقولة التي قالها بكل وضوح عبد الله القصيمي.
أما السمة الثانية فتمثلت في الأسطرة وتقديس الشخوص والرموز، فإضافة لما تناقلوه من أساطير عن عنترة والمهلهل والهلالي، والمبالغات في وصف كل القادة العسكريين من بعدهم مع إحاطتهم بهالات من التقديس ورفعهم فوق مستوى البشر (كل أفعالهم وأقوالهم صحيحة ومبجلة)، المهم هنا أن سيرة كل قبيلة أو منطقة ارتبطت باسم زعيمها الأوحد أو فارسها المغوار أو شاعرها الملهم.. الذين ابتلعوا التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وبذلك غابت (أو غُيبت) سير الناس العاديين وأدوارهم.. وبالتالي سار الاعتقاد بأنهم غير موجودين، أو على الأقل غير مهمين.
في ثنايا هذه العقلية صار الفارس والمحارب والذي أعمل سيفه في رقاب (الأعداء) هو القوي المهاب وصاحب المنزلة الأرفع، وهؤلاء احتلوا مكانة وجدانية واجتماعية أهم ممن تم تكريمهم لسمات الكرم والمروءة، أو لرجاحة عقلهم وحكمتهم.. فبالكاد عرفنا عنهم أمثلة تُعد على أصابع اليد.
المهم هنا، أن البطل (الزعيم، أو القائد العسكري) هو الذي بيده مفاتيح الحل والربط، هو الذي يصنع الانتصار، وهو من يجلب المجد، ومن يحدث التغيير، وجرى تغييب دور العامة (الجماهير، أو قوى المجتمع المدني).
صحيح أنه لا يجوز محاكمة الماضي بمعايير الحاضر ومحدداته ومفاهيمه، لكن ذلك الماضي ما زال مؤثراً وفاعلاً في الحاضر، بالعقلية نفسها، وباللغة وأدواتها ذاتها.. فنحن نفكر ونخطط بلغة الماضي ومفاهيمه وقيمه، ونستدعي النصوص القديمة والقوالب الجاهزة لمواجهة التكنولوجيا والعولمة وأدوات العصر الراهن.
ولحد الآن لا نتوقع التغيير أو النصر إلا بوجود القائد الزعيم، وما زلنا نستدعي قادة وأبطال الماضي لمواجهة أزمات وهزائم العصر.. وما زلنا مصممين على أن النصر سيجلبه قائد مظفر، سيكون بالضرورة نسخة عن أبطال الماضي.
والمشكلة أيضاً أن سمات البطل ومعايير البطولة (القديمة) هي ذاتها سمات ومعايير البطولة اليوم.. البطل هو فقط من يوغل في الأعداء، ومن يقتل أكبر عدد منهم، من يعلي صوته أكثر بالخطابة والشعارات والنصوص المقدسة، بغض النظر عن مدى ملاءمتها للحاضر واستجابتها لتحدياته، ومدى فاعليتها أو أثرها، أو حتى أضرارها ولو كانت كارثية.. ولا بد أن يُقتل حتى تتعزز بطولته!
ومع الرهان على البطل (الزعيم)، أو انتظار قدومه تعطل دور الجماهير (أو هي عطلته بنفسها) لأنها ظلت ترقب وتنتظر قدوم البطل، ولما أتى اكتفت بدور المراقبة والتفرج.. وهذا متوقع، ليس لأن الجماهير متخاذلة؛ بل لأنه تم دفعها بهذا الاتجاه وجرى تصميم فكرها وتوجيه فاعليتها لتكون بلا فاعلية، ففي حرب غزة جرى تكوين جماهير افتراضية بناء على فكرة تضخيم البطل (المقاومة)، ولما وقعت الحرب تعرضت المقاومة لضربات قاتلة، لأن القوة المتخلية لها لم تكن حقيقية، وتخلفت الجماهير عن دورها، لأنها بلعت الطعم وانطلت عليها الخديعة، فتبين أنها جماهير خاوية، وتحولت من دور الفاعل والمؤثر، إلى المتفاعل ولكن فقط على وسائل التواصل.
قديما كان كل ما هو مطلوب من البطل (زعيم القبيلة، أو قائد الجيش) أن يرتدي بزة المحارب، وأن يقف أمام صفوف الجيش ويهتف أمامهم ببعض الشعارات الحماسية، وأن يلوّح بسيفه آمراً ببدء الهجوم.. هذا كان كافياً لجلب النصر أو الهزيمة، والأمر برمته لا يحتاج سوى سحابة يوم، أو بضعة أيام، وينتهي كل شيء.. ومباشرة يأتي «اليوم التالي».
لنتخيل مثلاً لو أن خامنئي أو أردوغان أو أي قائد بأفضل المواصفات جمع جيشه ووقف أمامه ولوح بمسدسه آمراً بتقدم الجيش نحو العدو لتحرير فلسطين.. رغم سذاجة الصورة وسريالية المشهد إلا أن الكثير ما زال معتقداً أن هذا هو الخيار الوحيد للتحرير وجلب النصر وإنهاء حقبة من الهزائم امتدت على مدار ألف سنة!
ألف سنة ونحن خارج سياق تطور التاريخ، وعلى هامش الحضارة، دون أي فعل، سوى الكلام ولوك الكلام واجترار الماضي والتغني بأمجاد الغابرين.. ألف سنة ونحن نصنع أبطالاً افتراضيين، لأن هذا فقط ما ينسجم مع ثقافتنا وطريقة تفكيرنا.
لم نصدق يوماً أن البطل هو من يحقن دماء شعبه.. ومن يؤسس نظاماً تعليمياً حداثياً.. ومن يبني مؤسسة صحية متطورة.. ومن يؤسس حكماً رشيداً قائماً على النزاهة والعدالة والتعددية واحترام الحريات.. من يُعلي من قيمة الإنسان.. من يخترع شيئاً مفيداً للبشرية.. أو من يجترح نظرية فلسفية أو علمية.
ولم نقتنع يوماً أن البطل الحقيقي القادر على إحداث التغيير والنهوض وجلب النصر.. هو الشعب، المجتمع المدني، العقول، والنخب.. لكن هذا الشعب وكل الشعوب العربية، سُحب البساط من تحتها وتحولت إلى متفرج.
لهذه الأسباب، وغيرها، وصلنا إلى هذه المرحلة المزرية..