إعلام عبري..شهادة مروّعة من ميدان الحرب في غزة
عن هآرتس وترجمة “الأيام الفلسطنية”
– رفع يده وهو يلوّح براية بيضاء لكن الضابط الإسرائيلي أمر بإطلاق النار عليه وقتله
– تدمير ممنهج: لا يمكن العثور في قاطع نتساريم على مبنى يزيد ارتفاعه على نصف متر
– من المسموح إطلاق النار على الناس دون قيود .. كل جندي يفعل ما يروق له
بقلم: حاييم هار زهاف
في منتصف شتنبر حاول خمسة شبان فلسطينيين اجتياز المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي من ناحل عوز في منطقة النصيرات شمالاً باتجاه مدينة غزة.
حملت هذه المنطقة منذ فترة اسم «ممر نتساريم»، على اسم المستوطنة التي كانت هناك في السابق، أو «ممر بئيري»، مثلما يحاولون في الجيش الإسرائيلي جعل الناس يسمونها به. ولكن هذا لا يعتبر ممراً؛ لأنه خلافاً للممر، حسب تعريفه في القاموس، لا تربط هذه المنطقة بين أي مكان وآخر. فهي على شكل مستطيل بمساحة 50 كم مربع، يسيطر الجيش الإسرائيلي عليها، وتربط بين إسرائيل من الشرق ومدينة غزة من الشمال والنصيرات والبريج من الجنوب والبحر المتوسط من الغرب.
منذ بداية الحرب اعتبر الجيش الإسرائيلي وادي غزة، الوادي الذي تمر فيه مياه المجاري، خطاً يُسمح للفلسطينيين أن يكونوا جنوبه فقط.
في مرحلة العملية البرية في شمال القطاع، التي بدأت بعد 7 من أكتوبر واستمرت حتى نهاية 2023، أمر الجيش الإسرائيلي، مرة تلو الأخرى، الغزيين بالتحرك نحو الوادي وما بعده.
معظم السكان استجابوا للتحذيرات، وهربوا نحو الجنوب، وتركوا هذه المنطقة خالية في معظمها من السكان.
في الواقع تتحدث التقديرات عن 100 – 300 ألف شخص، بقوا في شمال القطاع، لكن هذه أقلية صغيرة مقابل عدد السكان الذين كانوا هناك قبل 7أكتوبر.
عرف الفلسطينيون الخمسة كل ذلك. بدؤوا في السير شمالاً، وبسرعة تم اعتقالهم على يد قوات كتيبة الاحتياط التي أخدم فيها، التي وصلت إلى المنطقة قبل بضعة أيام من ذلك. وقد تم تكبيلهم، وبعد عصب عيونهم تم إحضارهم إلى موقع عسكري كبير.
بعد فترة قصيرة وصل رجال وحدة 504 من أجل التحقيق معهم، وهم يحرصون على الفصل بينهم أثناء التحقيق وبعده.
لم يكن التحقيق عنيفاً، وبين حين وآخر أعطى حراس كتيبة الاحتياط الماء للمعتقلين. المعاملة، كما يبدو، كانت محترمة بقدر ما يسمح به الوضع.
قبل المساء كان على المحققين أن يقرروا أي واحد منهم سيتم إطلاق سراحه، هذا إذا كانت حاجة لذلك، ومن سيتم نقله للتحقيق معه في البلاد. «يبدو أنكم ستكونون هنا فقط بضعة أيام»، قال لي أحد المحققين عندما سألته عن القرار وكيف يجب علينا تنفيذ الإفراج عن هؤلاء الذين لا حاجة إلى الاستمرار في التحقيق معهم. وعندما سألته كيف يعرف بأننا جدد ابتسم وقال: «لأنكم حتى الآن تجلبون أسرى».
حياة الإنسان في قطاع غزة تساوي أقل من حياة الكلاب الضالة التي تتجول هنا وتبحث عن الطعام.
في حين يوجد أمر واضح يحظر إطلاق النار على الكلاب، إلا إذا كان هناك خطر حقيقي على حياة الجندي عندما يغرس الكلب أنيابه في جسده، فإنه من المسموح إطلاق النار على الناس دون قيود حقيقية، باستثناء حدود الأخلاق الشخصية للجندي الذي يحمل السلاح.
مرت 29 سنة على تجندي للجيش الإسرائيلي ودراسة الوثيقة التي تسمى «قيم الجيش الإسرائيلي»، والتي تم استبدالها بعد ذلك بـ «روح الجيش الإسرائيلي»، وفيما بعد «المدونة الأخلاقية لمكافحة الإرهاب».
حاول الجميع إيجاد إطار كنوع من النظام الداخلي للتعليمات والقواعد، يسمح للجندي بالحفاظ على المعيارية أثناء تنفيذ المهمة. كل ذلك تم رميها منذ 7 أكتوبر، أي أنها رسمياً ما زالت سارية المفعول، لكن عملياً كل شخص يفعل ما يروق له.
المهمة في ممر نتساريم سهلة. نوجد هناك لأننا موجودون هناك. ولا أحد يعرف كيف يشرح لنا حقاً ما الذي يساعد فيه وجودنا هناك.
قام الجيش الإسرائيلي ببناء مواقع كثيرة في هذا القاطع، معظمها داخل مواقع (الاسم المغسول للبيوت: هذا إذا قمنا بتسمية بيت عائلة باسم «أتار»، فإنه يسهل على البوصلة الأخلاقية الداخلية الموافقة على استخدامه أو هدمه).
وبعضها مواقع كبيرة متصلة بالمياه التي تأتي في أنبوب من دولة إسرائيل.
في السابق قالوا في الحكومة إنهم يسيطرون على هذه المنطقة لاستخدامها ورقة مساومة في صفقة إطلاق سراح المخطوفين.
في هذا الوضع الجميع سيوافقون، حيث يدور الأمر عن مهمة قيمية لا مثيل لها.
كنتُ سأوافق على الوجود هنا أربعة أشهر أخرى دون الذهاب إلى البيت لو أنني عرفت بأنني بذلك أقرب موعد تحرير المخطوفين. ولكن في نهاية غشت قرر الكابينيت أن محور فيلادلفيا ومنطقة نتساريم لن يتم استخدامهما ورقة مساومة في صفقة التبادل، وهكذا فإنه تمت إزالة القاعدة الأخلاقية للاحتفاظ بهذه المنطقة.
عندما وصلنا إلى المنطقة سمعنا محاضرة قائد الفرقة، بعد بضعة أيام على قرار الكابينيت. وقال إن المهمة هي قيمية واستراتيجية. قال ذلك ولكنه لم يشرح. سيقول المتشائمون إنه لم يرغب في القول إن إسرائيل تخطط لطرد جميع الفلسطينيين من شمال القطاع وإقامة المستوطنات هناك.
وحسب تقديري هو ببساطة كان محرجاً، مثلنا جميعنا، لأن قرار الكابينيت أدى إلى أن تكون مهمة الاستيلاء على المنطقة لا تخدم أي هدف، يمكن الموافقة عليه أو حتى تفسيره.
في غضون ذلك، إلى حين اتضاح الهدف يجب فعل شيء. إذاً، ما الذي نفعله؟ تدمير ممنهج للمباني.
في منطقة «الممر» لا يمكن العثور على مبنى يزيد ارتفاعه على نصف متر، باستثناء المباني التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي. جميعها تم تفجيرها، باستثناء الجامعة الإسلامية، التي أمر براك حيرام بتفجيرها، بقي فقط السور الخارجي للمبنى قائماً.
وبقدر معين، المستشفى التركي الذي ما زال قائماً رغم الأضرار الكبيرة بسبب القصف، كل ما تبقى لم يعد موجوداً.
في المكان الذي كانت فيه في السابق أحياء وبيوت توجد الآن الرمال والغبار.
أكوام الرمال تغطي الآن بالتدريج القليل من الأسمنت الذي لم يتفجر.
وبعد بضعة أشهر فلا أحد سيمكنه التخمين بأنه كانت هنا عائلات، شوارع، سيارات، مدارس، حقول ودفيئات. فقط القليل من النباتات والأشجار التي تصمم على البقاء نجحت بشكل معين في الصمود بعد تفجير البيوت، وتجاوزت كفة الجرافات.
معظم «العمل» تم تنفيذه قبل أن نصل إلى المكان. مهمتنا، التي من غير الواضح من قررها، هي تدمير المزيد من البيوت وراء وادي غزة: المكان الذي تم أمر الغزيين باجتيازه.
الهدف الرسمي هو إبعاد خط التماس، لكن لا أحد يشرح لنا لماذا. لأن الفلسطينيين بحاجة إلى مكان يكونون فيه، وإلى هناك طلب منهم الجيش الإسرائيلي الانتقال. وحتى الآن نحن نقوم بتفجير بيوتهم.
الطريقة سهلة جداً: نقوم باقتحام منطقة، نتأكد من أنها خالية من الناس (وإلا، نطرد السكان)، ونقوم بوضع المواد المتفجرة. في وقت ما كان سائداً استخدام مواد متفجرة تقنية، لكن في ديسمبر – فبراير قمنا باستخدام ألغام قديمة، والآن هم يستخدمون كل أنواع المواد الكيميائية من أجل إحداث الانفجار المطلوب.
يعكس هذا أكثر من أي شيء آخر الضرورة: مصانع السلاح لم تعد تلبي الطلب، وفي القطاع ما زال يوجد الكثير من المباني لتفجيرها.
وادي غزة ليس «الحدود بين المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي وبين باقي القطاع. هذه الحدود توجد جنوبه، ولا أحد يكشف للفلسطينيين الخط الأحمر الذي يحظر عليهم تجاوزه، وهم ينتقلون إلى الشمال باتجاه الممر. هم يكتشفون ذلك بالطريقة الصعبة: إطلاق النار عليهم وقتلهم عندما يقتربون من الخط الوهمي الذي قرره الجيش الإسرائيلي، الذي يتغير طوال الوقت. هذا الخط تم رسمه على الأرض، وقائد المنطقة يجب أن يقرر هل يتم تنفيذ إطلاق النار من أجل الإبعاد (إطلاق النار قربهم كي يفهموا أن من يريد النجاة بحياته يجب عليه الابتعاد)، أو السماح لهم بالاقتراب وبعد ذلك إطلاق النار عليهم من أجل قتلهم».
سواء أكانوا من أعضاء «حماس»، الذين جاؤوا لجمع المعلومات الاستخبارية، أو جاؤوا لإخراج أشياء من بيوتهم، أو أنهم كانوا في المكان غير الصحيح وفي الوقت غير الصحيح، في اللحظة التي تصيبهم فيها رصاصة القناص أو القنبلة التي ألقيت من حوامة، أو قذيفة مدفعية أطلقت من بعيد، فإنهم يتحولون إلى «مخربين» بشكل رسمي، ويدخلون إلى الإحصائيات التي ستظهر في اليوم التالي في بيان المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، التي ستمجد بطولة الجنود الذين قلصوا عدد «المخربين» في القطاع.
ذات يوم تم تسلم إنذار عام، يقول إنه ربما في مبنى في جنوب وادي غزة، جنوب الممر، ستتركز في المستقبل نقطة مراقبة لـ»حماس». ليس لأنه تمت رؤية أحد وهو يراقب، أو أن أحداً سمع عن شخص يقوم بالمراقبة، أو لأن أي أحد عرف شيئاً – هذه كانت معلومات وصلت من تحليل ميداني أو من مكالمة هاتفية سمعت بتنصت بشكل معين.
لا نعرف، وفي الأصل هذا ليس من مستوانا من ناحية الاطلاع على المعلومات الاستخبارية.
ملاحظة أخيرة. يوجد كثيرون يكتبون في الشبكات الاجتماعية: «ارفضوا» أو «لا توافقوا» أو «اخرجوا من هناك مع كل الكتيبة»، هذه هراءات.
الحرب هي منطقة رمادية جداً. قليلة هي الأوضاع التي فيها تكون مبررة كلياً، مثلما في 7 أكتوبر 2023 عندما كان من المشكوك فيه أن يكون هناك إسرائيليون لم يعتقدوا أنه يجب مهاجمة قطاع غزة.
قليلة هي الأوضاع أيضاً التي تُعتبر فيها الحرب غير مبررة كلياً، مثل الحالة التي أعطي فيها أمر إطلاق النار وقتل شخص غير مسلح وهو يرفع الراية البيضاء.
كل ما بقي هو رمادي. أحياناً رمادي فاتح وأحياناً أخرى رمادي قاتم أو رمادي.
عندها أمام الرمادي يقف الأصدقاء الذين لا تريد تركهم ليسحقوا في الموقع، الصداقة والأخوة، أو التخلي عن الإخلاص للوحدة والأصدقاء والجيش والدولة.
بدلاً من تقديم المواعظ الأخلاقية لجنود الاحتياط بأن يتظاهروا من أجلكم، يجب عليكم أنتم التظاهر.