رأس السنة الميلادية وميلاد المسيح: تباين الاحتفال وسوء الفهم لدى “المتأسلمين”
مع اقتراب نهاية العام، تُثار كل سنة نقاشات وجدالات حول الاحتفال برأس السنة الميلادية، يتصدرها خطاب بعض التيارات المتشددة أو ما يمكن تسميتهم بالمتأسلمين، الذين يخلطون عمداً أو جهلاً بين الاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة والاحتفال بميلاد السيد المسيح. هذا الخلط لا يعكس فقط سوء فهم للتقاليد الثقافية والدينية، بل يُظهر أيضاً ميلاً لتسييس المناسبات الاجتماعية واستخدامها كأداة للوصاية الفكرية على المجتمعات.
رأس السنة الميلادية، التي توافق ليلة 31 دجنبر، هي مناسبة يحتفل بها العالم بأسره إيذاناً بانتهاء عام وبدء آخر جديد.
هذا الاحتفال ذو طابع عالمي وغير مرتبط بدين بعينه، إذ تشارك فيه شعوب من خلفيات ثقافية ودينية مختلفة، وتتنوع مظاهره بين تبادل التهاني، وإطلاق الألعاب النارية، وإقامة الحفلات، و الهدف الأساسي من هذه المناسبة هو الاحتفاء ببداية جديدة تمثل الأمل والتجدد، وهي تقليد إنساني أكثر منه ديني.
في المقابل، يرتبط عيد ميلاد السيد المسيح، الذي يوافق 25 دجنبر لدى الطوائف المسيحية الغربية (و7 يناير لدى الطوائف الشرقية)، بمناسبة دينية مسيحية خالصة تُخلّد ذكرى ميلاد المسيح عيسى عليه السلام.
هذا الاحتفال يحمل طابعاً دينياً وروحانياً، ويترافق مع طقوس كنسية وصلوات، إلى جانب ممارسات اجتماعية مثل تبادل الهدايا وتزيين شجرة الميلاد.
إذن، الاحتفال برأس السنة الميلادية يختلف جذرياً عن الاحتفال بعيد الميلاد، سواء في المضمون أو الهدف، الأول عالمي واجتماعي، بينما الثاني ديني ومسيحي، ومع ذلك، نجد أن بعض المتأسلمين يصرون على دمج المناسبتين في خطابهم الرافض لأي شكل من أشكال الاحتفال، معتبرين أن المشاركة في هذه المناسبات “تشبه بالكفار” أو “ترويج للقيم الغربية”، دون التفريق بين الطابع الثقافي والطابع الديني لكل مناسبة.
هذا الخلط يعكس سوء فهم للتنوع الثقافي والاختلاف بين الشعوب، ويُظهر نزعة لفرض تصورات متشددة على المجتمعات. والأكثر إثارة للدهشة أن هذه الأصوات غالباً ما تتجاهل السياق التاريخي الذي شكل هذه المناسبات، بل تتغاضى عن أن رأس السنة الميلادية، رغم ارتباطها بالتقويم الغريغوري، لا تحمل أي طابع ديني مسيحي خاص.
من جهة أخرى، يُظهر هذا النقاش جانباً من ازدواجية الخطاب لدى هذه التيارات. ففي الوقت الذي يرفضون فيه الاحتفال برأس السنة أو عيد الميلاد، لا نجدهم يمانعون الاستفادة من مظاهر “الحداثة الغربية” في مجالات أخرى كالتكنولوجيا أو التعليم. هذا التناقض يُبرز أن القضية ليست في الاحتفال نفسه، بل في استخدامه كذريعة لفرض رؤيتهم الأحادية على الجميع.
إن الاحتفال برأس السنة الميلادية هو تعبير عن البهجة والتفاؤل ببداية جديدة، وهو تقليد إنساني يُعزز قيم الأمل والعيش المشترك، أما الخلط بينه وبين عيد الميلاد، فهو نتيجة خطاب مغلوط يهدف إلى خلق انقسامات ثقافية ودينية، بدلاً من بناء جسور التفاهم والاحترام بين الشعوب.
في النهاية، تبقى حرية الاحتفال خياراً فردياً يجب احترامه، بعيداً عن التأويلات المغلوطة أو المصادرة الفكرية التي تسعى لإلغاء التنوع الإنساني الغني.