ضحايا الهامش في مغرب الأولويات الملتبسة.. حين تصبح “الإنسانية” ضحية “أجمل بلد في العالم”
في مشهد يلخص مأساة واقعنا المغلّف بالوعود الزائفة، وبينما كانت مدينة القليعة تئن تحت وطأة البرد القارس، ظهر مشهد مزعج على أرصفة أحد شوارعها، سيدة متعبة، تحمل بين يديها طفلًا رضيعا،و تفترش الأرض قرب مقر الباشوية والملحقة الإدارية الثالثة، لتستجدي عطف المارة ودفء جيوبهم.
كانت عيناه الضعيفتان تجولان بين أقدام المارة، ربما بحثًا عن بعض الدفء، وربما عن نظرة رحمة.
الطفل، في عالمٍ مثالي، كان يفترض أن يكون محاطًا برعاية دولةٍ لا تفوّت الفرصة للإعلان عن استراتيجيات التنمية والاستثمار، لكنه وُجد في واقع مرير يعرّي التناقضات الصارخة بين الشعارات والممارسات.
هذا الوطن، الذي يدعي أنه يعانق مستقبلاً واعدًا، يبدو أنه ترك طفولته لتموت على أرصفة الانتظار.
في مغرب اليوم، تتدفق الأرقام الكبيرة من أرباح البنوك وشركات الاتصالات إلى عناوين الصحف، ففي العام 2024 وحده، حقق أحد البنوك(التجاري وفا بنك) أرباحًا تجاوزت 730 مليار سنتيم، بينما من المتوقع أن يجني العام المقبل أرباحًا تصل إلى 1000 مليار سنتيم، غالبيتها ستذهب لتمويل مشاريع لا علاقة لها بطفل يتجمد على الرصيف.
هذا الرضيع من دولة تتلقى فيها شركة اتصالات (إنـ.وي) 630 مليار سنتيم غرامة من منافستها (اتصالات أحيزون) لخرق الأخيرة قواعد “المنافسة الشريفة!”.
يمكن لهذا الطفل أن يفهم أن الدولة التي يعيش فيها، تسعى لاستثمار 1000 مليار درهم بين القطاعين العام والخاص، في مشاريع أغلبها استعدادا لاستقبال البراني، في كأس العالم؟ كيف يمكن لطفل بلا مأوى أن يستوعب أن الملاعب والمرافق التي خصص لتهيئتها أزيد من 15 مليار درهم تأتي في سلم الأولويات قبل توفير غطاء له؟كيف يمكن أن نشرح له أنه مواطن في دولة تتعهد للعالم ببناء أكبر ملعب كرة قدم بـ 500 مليار سنتيم!
فكيف لعقل صغير أن يدرك أن حكومته تفخر بتخصيص 28 مليار سنتيم لبناء ملعب لهوكي الجليد في عاصمة لا تزال تغرق في أزمات بسيطة كالمراحيض العمومية والمواصلات؟
و في حين يئن الطفل تحت وطأة البرد، يحتفل “أجمل بلد في العالم” بارتفاع إيرادات ميزانيته الضريبية بنسبة 63% منذ عام 2021، متناسياً أن كل هذه الأموال لم تنجح بعد في توفير مأوى كريم لمن يدفعون ثمن سياساته من جيوبهم و أرواحهم.
هذا البلد، الذي يدعي أنه ينافس على صدارة مصدري السيارات في العالم بـما يزيد عن 20 مليار دولار سنويا (20 ألف مليار سنتيم)!!!، يبدو عاجزًا عن إنتاج أبسط مركبة تنقل هذا الطفل من أرصفة التجاهل إلى حضن دافئ.
وما يزيد من سخافة المشهد هو أنه ابن نفس الدولة التي وعدت بإعادة إعمار المناطق المنكوبة جراء الزلزال بميزانية تقدر بـ 120 مليار درهم،لكن ببدو وكأنها أهدرت تلك المليارات في بناء قصور تطل على الحطام، بينما لازال سكان تلك المناطق يعانون قسوة الضروف و انعدام شروط الحياة الأساسية.
الطفل، الذي ربما ينتمي إلى إحدى هذه المناطق، يستجدي البقاء في وطن ينافس على شراء 32 طائرة مقاتلة بمليارات الدولارات لحراسة سمائه، بدلًا من إنقاذ مستقبله الذي يتلاشى مع كل دقيقة تمضي على أرضه .
إنه واقع مأساوي يقف فيه المواطن الصغير على النقيض من وطنه الكبير الذي يغرق في “الإنجازات” التي تقفز عاليا عن الحاجيات الملحة لبلد لازال فيه الدحل الفردي في اخر الترتيبات العالمية، ولاوالت قرى تعزل بمجرد سقوط بضع مليمترات من الثلوج، أو تنهار بيوتا وشوارع وقناطير فقط لأن السماء تكرمت بأمطار فوق المتوسط وأحيانا أقل من ذلك.
.
في هذا الوطن، تغلق النخبة السياسية أعينها عن كل شيء، بينما تصدح القنوات الإعلامية المحلية بأهازيج الفخر الوطني.
و ما يثير الحنق حقًا هو هذا التناقض القاتل بين “الوطنيات” التي يُراد لنا أن نفتخر بها، وبين أقدام طفل صغير عارية، تتسلق جدار اليأس على رصيف بارد.
إنها قصة بلد نسي أبناؤه في زحام المشاريع العملاقة التي تُبنى لاستقبال “البرّاني” في مونديال الشهر الواحد.
هذا الطفل، وأمثاله، هم الوجه الحقيقي “لأجمل بلد في العالم”، بلد اختار أن يحتفي بالمظاهر بينما يترك مواطنيه يواجهون قسوة الحياة بمفردهم، متناسيًا أن الأمم تُبنى من الإنسان أولاً، لا من الملاعب والمهرجانات.