سردية برج إيفل من رمز للهيمنة إلى وعي بإعادة بناء معنى الحرية (من وحي ذكرى 2 مارس 1956 لنسخ معاهدة الحماية)
22/02/2025
0
بقلم: مصطفى المنوزي
في قلب باريس، حيث يلامس برج إيفل السماء بفخامة هندسية تخطف الأنفاس، يقف هذا الصرح الشاهق كشاهد على عظمة الحضارة الفرنسية وابتكارها، لكن هذا البرج، الذي يُعتبر أيقونة للفن والهندسة في الغرب، يتحول في السياق الأفريقي إلى رمز مظلم، يحمل في طياته ذكريات مريرة عن حقبة استعمارية دامت قرونًا.
إنه ليس مجرد هيكل معدني، بل هو مرآة تعكس آلام الشعوب الأفريقية التي عانت من ويلات الاستعمار الفرنسي . فبرج إيفل الأفريقي الأصل والمنبع ، بكل ما يحمله من تناقضات، يظل تذكيرًا صارخًا بالجراح التي لم تندمل، وبالحاجة الملحة إلى تصحيح تاريخي يعيد الاعتبار لتلك الشعوب التي عانت تحت نير الاستعمار.
إنه مع وصول القوات الفرنسية إلى أفريقيا، بدأت عملية منهجية لتفكيك المجتمعات المحلية وفرض الهيمنة الثقافية. تم تهجير ملايين الأفارقة من أراضيهم، ليحل محلهم مستوطنون فرنسيون جلبوا معهم لغتهم وثقافتهم.
هذه العملية لم تكن مجرد احتلال للأرض، بل كانت أيضًا احتلالًا للهوية. الثقافة الفرنسية، بكل ما تحمله من قيم وأفكار، أصبحت تُفرض على الشعوب الأفريقية، مما أدى إلى خلق هوة عميقة بين الأفارقة وجذورهم الثقافية.
لقد تحولت اللغة الفرنسية إلى لغة النخبة، بينما تراجعت اللغات المحلية إلى الخلفية، مما أدى إلى فقدان جزء كبير من التراث الثقافي الأفريقي. ولم تكن الموارد الطبيعية في أفريقيا سوى غنيمة للقوى الاستعمارية.
الذهب، المطاط، والمعادن الثمينة كانت تُنهب بلا رحمة لتعزيز الاقتصاد الفرنسي، بينما تُركت الشعوب الأفريقية تعاني من الفقر والتخلف ، حيث لم يقتصر الاستغلال على الموارد المادية فحسب، بل امتد ليشمل البشر أنفسهم ، وكان العمل القسري أداة أخرى لاستنزاف طاقة الأفارقة، مما خلق تبعية اقتصادية استمرت حتى بعد انتهاء الاستعمار رسميًا. ومازالت هذه التبعية تُلقي بظلالها على الاقتصادات الأفريقية حتى اليوم.
وكانت فرنسا واحدة من أكبر المشاركين في تجارة الرق عبر المحيط الأطلسي، فملايين الأفارقة تم نقلهم قسرًا إلى العديد من المستعمرات الفرنسية في الأمريكتين، حيث عانوا من ظروف عمل قاسية حيث إن هذه التجارة لم تدمر حياة الأفراد فحسب، بل دمرت أيضًا البنية الاجتماعية للعديد من المجتمعات الأفريقية. وتم تفكيك العائلات، والروابط الاجتماعية تمزقت، مما جعل عملية إعادة بناء السيادة الوطنية بعد الاستقلال مهمة شاقة للغاية.
وكان الطب الكولونيالي يُقدم على أنه أداة لتحسين صحة السكان المحليين، لكنه في الواقع كان وسيلة لتعزيز الهيمنة الثقافية. فالتجارب الطبية غير الأخلاقية التي أُجريت على الأفارقة كانت انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، بينما تم استخدام الطب كأداة لترسيخ التبعية الصحية.
حتى اليوم، تعتمد العديد من الدول الأفريقية على الأنظمة الصحية التي ورثتها من الاستعمار ؛ وتحت غطاء المبادرات الإنسانية، كان التبشير الطبي يُستخدم لنشر الدين المسيحي والقيم الغربية ، هذه الممارسات لم تكن تهدف فقط إلى تحسين الظروف الصحية، بل كانت أيضًا محاولة لإضعاف الهوية الثقافية للشعوب الأفريقية؛ ولذلك كان التبشير الطبي أداة مزدوجة: طبية ودينية، تهدف إلى خلق مجتمعات أكثر خضوعًا للقوى الاستعمارية.
وبالموازاة و من خلال القضاء القنصلي، كانت فرنسا تفرض سلطتها القضائية على شعوب مستعمراتها ، فهذا النظام كان يُقدم على أنه حماية للأجانب، لكنه في الواقع كان يُستخدم لحرمان المواطنين المحليين من العدالة المتساوية، وبذلك شكل القضاء القنصلي أداة أخرى لترسيخ الهيمنة الفرنسية، حيث كانت القوانين تُطبق بشكل انتقائي لصالح المستوطنين الفرنسيين.
أما على التعاون الثقافي ، فباسمه كانت فرنسا تُروج لثقافتها وقيمها في المستعمرات ؛ وكان التعليم يُستخدم كأداة لبناء تبعية معرفية، حيث يتم تعليم وتكوين النخب الأفريقية وفقًا للمناهج الفرنسية، مما أدى إلى خلق جيل من القادة الذين يفكرون بمنطق المستعمر، وما زالت هذه التبعية المعرفية تُلقي بظلالها على الأنظمة التعليمية في العديد من الدول الأفريقية. وعلى مستوى مهنة الترجمة، فقد لعب التراجمة دورًا محوريًا في تسهيل التواصل بين المستعمرين والسكان المحليين، لكن الترجمة كانت أيضًا أداة للهيمنة الثقافية.
من خلال ترجمة النصوص الفرنسية إلى اللغات المحلية، ساهمت التراجمة في نشر الثقافة الفرنسية وقيمها، مما أدى إلى تهميش اللغات والثقافات الأفريقية. في الوقت نفسه، كانت الترجمة تُستخدم لتصريف وتمرير القوانين والسياسات الاستعمارية، مما جعلها أداة لفرض النظام الاستعماري وتبريره .
ومن جهة أخرى كان الأنثروبولوجيون الفرنسيون يدرسون المجتمعات الأفريقية تحت مظلة البحث العلمي، لكن دراساتهم كانت غالبًا ما تُستخدم لتعزيز الهيمنة الاستعمارية ، من خلال فهم الثقافات المحلية، تمكنت السلطات الاستعمارية من تطوير استراتيجيات أكثر فعالية للسيطرة على الشعوب الأفريقية. لأن الأنثروبولوجيا، التي كان من المفترض أن تكون علمًا لفهم البشر، تحولت إلى أداة لاستغلالهم.
وبعد الاستقلال، ورثت العديد من الدول الأفريقية أنظمة قانونية فرانكفونية تم تصميمها لخدمة مصالح المستعمر. هذه القوانين، التي تم تطبيقها في ظل الاستعمار، استمرت في حكم المجتمعات الأفريقية بعد الاستقلال، مما أدى إلى استمرار التبعية القانونية والسياسية لفرنسا ؛ ولهذا فالتشريع الفرانكفوني لم يكن مجرد نظام قانوني، بل كان أداة لضمان استمرار النفوذ الفرنسي في أفريقيا. أما في المجال الرياضي فقد أصبحت فرنسا تستخدم الرياضة كأداة لتعزيز نفوذها الثقافي في مستعمراتها السابقة ؛ فعبر تجنيس الرياضيين الأفارقة ودمجهم في الفرق الفرنسية، كانت فرنسا تُعزز صورة “نفسها ” كقوة حضارية ومتسامحة؛ غير أن عمليات التجنيس الرياضي اعتمدت أيضًا وسيلة لاستغلال المواهب الأفريقية وتعزيز التبعية الثقافية ؛ فالرياضة، التي يُفترض أن تكون أداة للتوحيد، تحولت إلى أداة للهيمنة.
نالت الشعوب حظوظها من الإستقلال الشكلي ؛ عبر آلية التسوية المشروطة تارة ؛ وعبر منح إستقلالات ذاتية أو نسخ الحمايات وإلغاء الإنتداب ؛ ليبقى سؤال عدالة الإنتقال الديمقراطي كمطلب ملح لأجل طي صفحة الماضي ، أوإحداث القطائع الصغرى الممكنة ، على أساس ان القطيعة الكبرى بمثابة سردية عظمى تتطلب كفاحا أعظم ؛ ولايجاد صيغ سلمية ناجعة لحل التوترات المتوارتة مع الجوار ، ونسخ الحدود والخرائط التي خلفها الإستعمار . وفي هذا وجب فتح فرص جديدة تروم استكمال مطلب التحرر تكريسا لمطلب الوحدة والديموقراطية؛ وذلك عبر آليات العدالة الإنتقالية . مما يقتضي و يجب معه أولًا كشف الحقائق. تشكيل لجان الحقيقة والعدالة يُعد خطوة أساسية لتوثيق الانتهاكات التي ارتكبتها فرنسا ضد الشعوب الأفريقية. جمع شهادات الضحايا وإعادة كتابة التاريخ من منظور الضحايا، باعتباره أحد السبل بل اقواها لتحقيق المصالحة مع الماضي ؛ لأنه رغم مرور الزمن، لم تغب عن الذاكرة الأفريقية هذه الجراح التي تركها الاستعمار، ورغم الصعوبات التي واجهتها شعوب أفريقيا، إلا أن الأمل لا يزال قائماً في تصحيح هذا التاريخ . فكما يمكن تصور صهر الحديد الذي كان يمثل الهيمنة الاستعمارية وإعادة تشكيله ليمثل جسوراً تربط بين شعوب القارة السمراء، يمكن للأمم الأفريقية أن تبني مستقبلها، حيث تُفتح الأبواب وتُبنى الجسور، ويمتد الطريق نحو العدالة والحرية.
ولهذا فإن العدالة الانتقالية ليست مجرد مسعى لتصحيح الماضي، بل هي دعوة لإعادة بناء المستقبل على أسس من المساواة والعدالة، حيث تجد الشعوب الأفريقية مكانها في عالم يعترف بحقوقها، ويعترف بما تحمل من تاريخ، ويصنع مستقبلاً يشهد بتضامنها وتحررها. ثم إن إصلاح المؤسسات التي ساهمت في ارتكاب الانتهاكات هو جزء لا يتجزأ من العدالة الانتقالية ؛ فالمؤسسات العسكرية والاقتصادية التي تم بناؤها خلال فترة الاستعمار يجب أن تخضع لإصلاحات جذرية لضمان عدم تكرار الممارسات الاستعمارية.
في مقدمة هذه السردية تحدثنا عن برج إيفل كمعلمة ترمز إلى الفخر الفرنسي والابتكار الهندسي، لكننا رأيناه في السياق الأفريقي ، وقائعا ومواقعا ؛ يتحول إلى رمز للظلم والمعاناة !
الآن، وعلى سبيل الختم والإستنتاج ، لا مناص من أن نتخيل ونتمثل حديد البرج وهو يُصهر ويُذوب، ليتحول إلى سكك لقطارات التنمية التي تنصب على امتداد القارة السمراء، ومن شمالها المغاربي إلى مصر ؛ هذه السكك لن تكون مجرد خطوط حديدية، بل ستصير جسورا من أجل العبور الآمن نحو التحرر الكامل والديمقراطية الشاملة.