فوضى قطاع اللحوم بين الوعود و الخيبات، بين واقع الاختلالات وسؤال المحاسبة المغيب
01/03/2025
0
تحرير: جيهان مشكور
شهد قطاع اللحوم الحمراء في المغرب تحولات متسارعة خلال السنوات الأخيرة، أبرزها التدخلات الحكومية المتكررة التي وُصفت بأنها “استعجالية”، لكنها أثارت العديد من التساؤلات حول نجاعتها ومدى تحقيقها للأهداف المرجوة.
البداية كانت في أبريل 2023، حين اجتمع رئيس الحكومة عزيز أخنوش مع مهنيي القطاع، إلى جانب وزير الفلاحة السابق ووزيرة المالية، مُعلنين عن حزمة تدابير تهدف إلى إعادة التوازن للسوق الوطنية وتشكيل القطيع الوطني على المدى القريب، توازنٌ لم يكن مختلًا إلا على حساب جيوب المواطنين، بينما حسابات “الكبار” كانت مستقرة جدًا ومربحة جدا، ومهيئة لهم تماما لاستقبال المزيد من الصفقات الدسمة.
فبعد أقل من شهر، وبالتحديد خلال النسخة الخامسة عشرة من المعرض الدولي للفلاحة بمكناس، وُقّعت اتفاقيات استثمارية بقيمة 14.45 مليار درهم، توزعت بين مساهمة المهنيين بـ6.7 مليار درهم، والدولة بـ7.75 مليار درهم، كان الهدف المعلن لهذه الاستثمارات هو رفع إنتاج اللحوم الحمراء إلى 850 ألف طن بحلول عام 2030، مقارنة بـ600 ألف طن في عام 2020، وهي الفترة التي كان فيها المغرب يحقق الاكتفاء الذاتي.
بدا المشهد وكأنه ولادة جديدة لقطاع يحتضر، تدفقت الأموال بسخاء، و وُضعت الخطط بعناية، رغم أن الجميع كان يعلم أن المغرب يعيش ثالث سنة من الجفاف، وأن أسعار الأعلاف تلتهم جيوب الفلاحين كما تلتهم النيران هشيم الحقول.
لكن لا بأس، فالربيع “الزّرقالافي” قادر على إحياء الأمل حتى في أكثر الأراضي قحطًا، والمصطلحات الرنانة مثل “السيادة الغذائية” كانت كفيلة بإعطاء جرعة تفاؤل إضافية للمتفائلين بطبعهم، لكن الواقعيين بطبعهم تساؤلوا حول مدى واقعية هذه الأهداف ومدى استنادها إلى معطيات ميدانية دقيقة.
المهم، أن الخطة الاستراتيجية التي كلفت خزينة الدولة مليارات الدراهم لم تمنع وزارة الفلاحة بعد عام واحد فقط من فتح باب استيراد مليون رأس غنم، في محاولة فاشلة لخفض الأسعار و تخفيف الضغط على السوق الداخلية.
في الخطوة بدت في ظاهرها إنقاذًا للمواطن، لكن الباطن كان يحمل مفاجآت أكثر إثارة و مأساوية، فكالعادة، لم يكن المواطن هو المستفيد، بل شبكة ضيقة من المستوردين الذين تلقوا الدعم بسخاء، وكأنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، 50 مليار سنتيم ذهبت لعشرة أسماء معروفة في السوق، منهم أربعة في جهة الرباط القنيطرة وحدها، لاستيراد الماشية دون أي التزام بخفض الأسعار، و النتيجة؟ أسعار الأضاحي لم تنخفض، وأسعار اللحوم بقيت تواصل رقصتها المجنونة بين 110 و170 درهمًا للكيلوغرام، في وقت كان فيه المغاربة يتساءلون عن جدوى كل هذه التدابير.
و ما يزيد الطين بلة هو ما حدث بين أكتوبر 2023 وأكتوبر 2024، حيث استفاد هؤلاء “المستوردون الكبار” من إعفاءات ضريبية وجمركية تقدر بحوالي 200 مليار سنتيم، في محاولة جديدة لتوفير اللحوم بأسعار معقولة وإعادة بناء القطيع الوطني عبر الاستيراد، وكأننا أمام “حل سحري” لتحسين الوضع، ولكن المفارقة أن أسعار اللحوم استمرت في الارتفاع، بينما تراجع حجم القطيع الوطني بشكل لافت، إذ انخفض من 31 مليون رأس عام 2021 إلى 18.1 مليون رأس في 2024.
وفيما يبدو أن “الإعفاءات الضريبية” و”الإجراءات الاستثنائية” كانت تزداد، كانت أسعار اللحوم تتنقل بحرية بين 150 و200 درهم للكيلو.
دعم بالمليارات، وإعفاءات بالجملة، لكن في النهاية، المواطن لم يستفد من شيء سوى متابعة هذا المسلسل الطويل من القرارات الفاشلة، التي تُصبّ في مصلحة فئة قليلة فقط، فهل هي صدفة ام فشل مدروس من حكومة رؤس الأموال.
و مع اقتراب عيد الأضحى لعام 2025، ورغم استمرار الدعم الحكومي ومضاعفة الإعفاءات، كان واضحًا أن السيناريو نفسه سيتكرر، ولكن بأسعار أكثر جنونًا، فالتوقعات كانت تُشير إلى أن متوسط سعر الخروف سيصل إلى ما بين 6,000 و8,000 درهم، وأن أسعار اللحوم ستتجاوز 150 إلى 200 درهم للكيلوغرام بعد العيد، وعندما تسأل عن السبب، تأتيك الإجابة الجاهزة: كورونا، التغيرات المناخية، حرب روسي اوكرانيا وما شئت من الحروب، والأزمة الاقتصادية العالمية، كل شيء متهم، إلا الفساد وسوء التدبير المحلي، فهما يظلان في مأمن من أي محاكمة عقلية أو محاسبة سياسية، أو حتى ذكر له، بل ولما مواجهة حتى من يثيره بما فيها مؤسسات حكامة رسمية.
في سياق متصل، و لمواجهة هذا الوضع، جاء القرار السياسي بإلغاء شعيرة الأضحية لهذا العام، تحت مبررات دينية واجتماعية، في محاولة لرفع الضغط عن المواطنين والحدّ من الاحتقان.
لكنها خطوة بدت كمن يُغلق نافذة بعد أن دخل الطوفان من الباب، صحيح أن القرار رفع مؤقتًا الحرج عن المواطنين، لكنه لم يُجب عن السؤال الأهم: أين ذهبت كل تلك الأموال التي صُرفت على دعم واستيراد وتطوير قطاع اللحوم؟ ولماذا لا يزال المغاربة غير قادرين على شراء أضحية العيد رغم كل تلك “الإجراءات الاستعجالية”؟.
يظهر جليا أن ليس الغاء العيد ما يحتاجه الشعب، بل يحتاج إصلاحا هيكلي يعيد رسم قواعد اللعبة الاقتصادية، ويضمن عدالة في توزيع الموارد، ويضع حدًا لتغوّل الوسطاء والمضاربين الشناقة الذين يستفيدون من الدعم الحكومي دون تقديم أي خدمة حقيقية للمواطنين.
ما حدث خلال السنوات الأخيرة يُعيد إلى الواجهة فشل السياسة الفلاحية في المغرب، و تساؤلات حول مصير الأموال الطائلة التي أُنفقت في إطار “المخطط الأخضر” الذي كلف 132 مليار درهم، ثم “الجيل الأخضر” بـ110 مليارات درهم، وكلها مشاريع لم تمنع المغاربة من الوصول إلى هذه النقطة الحرجة، حيث بات العيد بدون أضحية، واللحم حلمًا بعيد المنال، بينما تُخصص ميزانيات ضخمة لتنظيم تظاهرات رياضية كبرى مثل كأس إفريقيا وكأس العالم، ويستمر معها أسئلة أولويات المغرب للنمو والنهوض.
الأسئلة الحقيقية التي يجب طرحها اليوم لا تتعلق فقط بمدى نجاعة السياسات الفلاحية، بل تتجاوز ذلك إلى قضية جوهرية: من يحاسب المسؤولين عن هذه الفوضى و عن تبديد المال العام ؟ من يُعوض خزينة الدولة عن مليارات تبخرت دون أثر؟ ومن يعوض الفلاحين الصغار الذين خسروا مصدر رزقهم بسبب سوء التدبير واحتكار الأسواق؟ الحلول الترقيعية لن تُجدي نفعًا، والاستقرار في هذا البلد لن يكون بمجرّد إدارة الأزمات بالمهدئات السياسية، بل بمحاسبة فعلية، وإصلاح جذري يعيد الأمور إلى نصابها قبل أن يتحول “القطيع” الأكبر – أي الشعب – إلى قطيع خارج السيطرة، ويبى الأهم من يعلق الجرس في استمرار خرق الدستور سواء في الية ربط المسؤولية بالمحاسبة، أو في دور باهت وأحيانا كثيرة متواطئا، ونقصد هنا مجلس المنافسة.