
يعتبر التغير المناخي أحد أخطر التحديات التي تواجه البشرية اليوم، حيث تتشابك فيه الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما يجعل تحديد المسؤول الأول عن هذه الأزمة البيئية مسألة أكثر تعقيدًا من مجرد النظر إلى الأرقام المجردة،
فبين تراكم الانبعاثات على مدى قرون وبين ديناميات الاقتصاد العالمي الحديثة، تتعدد زوايا التحليل، إلا أن القاسم المشترك بينها يظل مرتبطًا بعنصري الثروة والاستهلاك.
المسؤولية التاريخية للدول الرأسمالية الصناعية الكبرى
لطالما كانت الدول الصناعية الكبرى، ولا سيما في الغرب، المساهم الأكبر في الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري منذ بدء الثورة الصناعية، فمنذ عام 1850، أطلقت 12 دولة فقط، تضم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ومعظم دول أوروبا الغربية واليابان، ما يقارب نصف إجمالي الانبعاثات الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري والصناعة، وعلى الرغم من أن هذه الدول لا تمثل اليوم سوى 12% من سكان العالم، إلا أن تأثيرها البيئي التاريخي لا يزال حاضرًا بقوة، حيث ارتفعت درجة حرارة الأرض بنحو 1.1 درجة مئوية خلال الـ170 عامًا الماضية، مما أدى إلى تصاعد موجات الحر الشديدة، والفيضانات المدمرة، وحرائق الغابات، والجفاف المتكرر.
وما يزيد من تعقيد المسألة أن الدول الأكثر تضررًا من تغير المناخ، وهي غالبًا دول نامية لم تساهم بشكل كبير في المشكلة، تجد نفسها اليوم في مواجهة كوارث بيئية تفوق إمكانياتها بكثير، ولذلك، تطالب هذه الدول نظيراتها الغنية بتقديم الدعم المالي لمساعدتها على التكيف مع آثار التغير المناخي، وهو ما يثير نقاشًا محتدمًا حول “العدالة المناخية”.
الصين والتحدي الحديث لانبعاثات الكربون
في الوقت الراهن، تعد الصين أكبر مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، حيث أنتجت وحدها في عام 2022 حوالي ثلث إجمالي انبعاثات الكربون الناتجة عن النشاط البشري، لكن بالنظر إلى السياق التاريخي، فإن مسؤوليتها عن إجمالي الانبعاثات منذ عام 1850 لا تتجاوز 14%، وهو ما يضعها في مرتبة متأخرة مقارنة بالدول الغربية التي بدأت التصنيع في وقت أبكر بكثير.
ولا يمكن حصر المسؤولية في الدول وحدها، فحتى داخل كل دولة، تختلف مستويات الانبعاثات الفردية بشكل كبير تبعًا لمستوى الدخل والرفاهية، ففي الولايات المتحدة، ينتج الفرد من أغنى 10% من السكان حوالي 75 طنًا من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، بينما لا يتجاوز متوسط الانبعاثات الفردية لأفقر 50% من السكان 10 أطنان. أما في الصين، فتبلغ انبعاثات أغنى 10% حوالي 36 طنًا للفرد سنويًا، مقابل 3 أطنان فقط للفقراء.
وهذا الاختلاف الكبير يعكس تأثير أنماط الحياة الاستهلاكية على حجم الانبعاثات، مما يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل يتحمل الأفراد والشركات الكبرى المسؤولية نفسها عن أزمة المناخ، أم أن المسألة تظل محصورة في الدول الصناعية الكبرى؟
الجنوب العالمي يدفع الثمن
غالبًا ما يتم تسليط الضوء على دور الشركات الكبرى، خاصة تلك العاملة في قطاع الوقود الأحفوري، حيث تشير الدراسات إلى أن أكثر من 70% من الانبعاثات العالمية منذ عام 1998 تعود إلى منتجات باعتها 100 شركة فقط، ومع ذلك، يرى البعض أن هذه الشركات لم تكن لتنجح في تسويق منتجاتها لولا الطلب المتزايد من المستهلكين، مما يعيد النقاش إلى العلاقة الجدلية بين الإنتاج والاستهلاك.
المفارقة الكبرى تكمن في أن المجتمعات الأكثر استهلاكًا، والتي تتحمل المسؤولية الأكبر عن تفاقم الأزمة المناخية، هي الأقل تضررًا من عواقبها، بينما تعاني الدول النامية من الآثار الأكثر خطورة، رغم كونها الأقل مساهمة في المشكلة، ويظهر ذلك جليًا في عجز العديد من هذه الدول عن مواجهة الكوارث البيئية المتزايدة مثل الأعاصير والجفاف وارتفاع منسوب مياه البحر، والتي تدمر اقتصاداتها الهشة وتدفع بملايين السكان إلى براثن الفقر والنزوح القسري.
وفي خطوة لمحاولة تحقيق قدر من العدالة المناخية، تم الاتفاق خلال مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “كوب 28” الذي عقد في الإمارات عام 2023، على إنشاء “صندوق الخسائر والأضرار”، حيث تعهدت الدول الصناعية الكبرى بتقديم تعويضات للدول النامية المتضررة من التغير المناخي، غير أن تنفيذ هذا التعهد ظل محدودًا، حيث لم تفِ معظم الدول الغنية بالتزاماتها، مما عزز الشعور بعدم الإنصاف لدى الدول الفقيرة.
إلى أين يتجه العالم؟
يبقى السؤال المطروح: هل يمكن تحقيق عدالة مناخية حقيقية في ظل التفاوت الكبير بين الدول في المسؤولية التاريخية والقدرة الاقتصادية؟ وهل يمكن إقناع الدول الصناعية الكبرى بتحمل التزاماتها تجاه الدول الأكثر ضعفًا؟
الحلول لا تكمن فقط في تحميل طرف دون الآخر المسؤولية، بل في تطوير استراتيجيات شاملة تستهدف تقليل الانبعاثات، وتعزيز الطاقات المتجددة، ودعم الابتكار التكنولوجي للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
كما يجب إعادة النظر في أنماط الاستهلاك في الدول الغنية، وفرض سياسات بيئية أكثر صرامة على الشركات الكبرى، لضمان توزيع أكثر عدالة لعبء مواجهة الأزمة المناخية.
في النهاية، يبقى التغير المناخي مشكلة عالمية، والحل لن يكون فعالًا إلا إذا تبنته جميع الدول بتضامن حقيقي، بعيدًا عن المزايدات السياسية والاقتصادية، فالكوكب لا يعترف بالحدود، والكوارث المناخية لن تفرق بين شمال وجنوب عندما تحين لحظة الحساب.