
“الدولة الفلسطينية” أداة تطبيع الأبرتهايد والإبادة!
ما هي النيّة الحقيقية للدول التي تتحدث عن “حلّ الدولتين”، وتعد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية قريبًا، والذي وجه بغضبٍ هستيري من الائتلاف الصهيوني الحاكم؟ هل نُصدّق ما تقوله هذه الدول عن ضرورة “حلّ الدولتين”، وهي التي ترفض أو تدّعي العجز عن وقف الإبادة الصهيونية في غزّة؟ فأيّهما أسهل وأشدّ حاجة في اللحظة الراهنة؛ وقف المقتلة، أم إقامة الدولة الفلسطينية، وهي مهمّة كبرى تتطلب تغيير ميزان القوى بصورة جذريّة وضغطًا حقيقيًّا لإزالة الاستيطان والوجود العسكري الصهيوني من الأراضي المحتلة عام 1967 بموجب القانون الدولي، وهو أمر غير متوفّر حاليًّا؟
هل هذه الدول جادّة في ما تقوله، أم أنه هروبٌ من التحلّي بالجرأة السياسية والأخلاقية واتخاذ الموقف الصارم لوقف الحرب، الذي لا يحتاج سوى فرض حظر نقل السلاح إلى ماكينة الإبادة الصهيونية، والتوجّه لمجلس الأمن واستصدار قرار بوقف المذبحة، ومقاطعة نظام الإبادة؟
نعم، ربما عودة التصريحات بشأن الدولة الفلسطينية مؤشر على يقظة نتيجة منطقية مفادها أن لا نهاية لهذا الصراع الكولونيالي سوى حلّ سياسي، بغض النظر عن عدالته، ولكنها ليست يقظة حقيقية وصادقة، بل هي ليست أكثر من تغطية على استمرار المذبحة الصهيونية.
ليس مطلوبًا تحريك جيوش جرّارة لإجبار إسرائيل على وقف جرائمها الأبشع في التاريخ. إنّ وقف الحرب لا يحتاج إلا إلى قرار دولي، وبمبادرة كل دولة على حدة، أجنبية أو عربية أو إسلامية، بوقف بيع السلاح، وتعليق اتفاقيات التطبيع، والمبادرة لاتخاذ إجراءات عقابية بحقّ مرتكب جريمة الإبادة بموجب القانون الدولي. هل من لا يستطيع وقف مجزرة بشريّة غير مسبوقة في وحشيتها، مستعدٌ أو راغبٌ بالذهاب نحو فرض حلّ سياسي على إسرائيل؟ هذا سؤال جوهري، ولا يجوز المناورة بشأنه.
لا نتحدث عن الدول الغربية القليلة، مثل إيرلندا، وإسبانيا، وربما النرويج، التي اتخذت قرارات متقدمة ضد إسرائيل، وتعني ما تقوله عندما تتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، بل نتحدث عن تلك الحكومات الغربية المتحالفة مع إسرائيل والداعمة لحربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ومعها عدد من الأنظمة العربية التي تحوّلت إلى مستعمرات إسرائيلية بإرادتها.
تلك الحكومات، الأوروبية بشكل خاص، تتحمّل المسؤولية الكاملة عمّا وصلت إليه الأوضاع في فلسطين. هي التي منحت غطاءً لجرائم إسرائيل طيلة العقود الماضية، ووفّرت حصانة دائمة لها ضد المساءلة الدولية، وهي التي مهّدت بصورة غير مباشرة، بدعمها وتواطؤها، للوصول إلى هجوم 7 أكتوبر، وما تلاه من مواصلة الإبادة، والذي لا يمكن فهمه إلا في سياق التغطية على الإجرام المتواصل منذ 85 عامًا. ولهذا السبب تثور شعوبها ضد تحالف حكوماتها مع نظام الإبادة الصهيوني، لما يلحق بهذه الشعوب من ضرر أخلاقي واقتصادي وسياسي بعيد المدى جرّاء هذا التحالف القذر.
منذ زمن طويل، تحوّل شعار “حلّ الدولتين” إلى كليشيه فارغ، بل بات يُثير الغثيان عندما يصدر عن حكومات متواطئة من رأسها حتى أخمص قدميها في جريمة الإبادة، وتعادي دولة جنوب أفريقيا لموقفها الأخلاقي الواضح، وتلاحق المحكمة الدولية التي أقرت فعليًّا بأنّ إسرائيل كيان مارق.
هذه الدول تكتفي بالتصريحات مجاملة، وهي تدرك أن إسرائيل – حكومة ومعارضة ومجتمع – أزاحت حلّ الدولتين، حتى بشكله الممسوخ واللفظي، من أجندتها، بل من وعيها، قبل هجوم ٧ أكتوبر.
رغم الإدانة العامة، من حكومات أوروبا وغيرها، لهجوم حركة حماس، فقد أدرك بعضها أن لا نهاية للصراع بدون حلّ سياسي، ولكنها لم تُقدّم جديدًا بشأن الصيغة الخطابية لحلّ الدولتين، ولم تُحدّد ماذا تعني بحلّ الدولتين، وما هي آليات تنفيذه.
ما معناه العودة إلى ما أدّى إلى مواصلة المشروع الاستيطاني والإبادي، الذي جرى تحت غطاء الحراك الفارغ المتعلق بحلّ الدولتين.
قبل الحدث الزلزالي في 7 أكتوبر، كان النظام السعودي قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاقيّة تطبيع مع إسرائيل، بواسطة إدارة الإمبراطورية الأميركية، لاستكمال ما يُسمى بالاتفاق الإبراهيمي، الذي أسقط الإمارات والبحرين والمغرب تحت النفوذ الإسرائيلي المباشر، غير أنّ هجوم حماس بعثر جميع الأوراق، وعطّل المخطط الأميركي–الصهيوني.
والمخطط تمثّل بإزاحة قضيّة فلسطين عن الأجندة الدولية تماشيًا مع التوجهات الإسرائيلية، وبفصل قضيّة فلسطين عن المحيط العربي.
ولكن بعد هجوم السابع من أكتوبر، بادرت المملكة السعوديّة، التي أدركت حاجتها للهدوء للمضيّ في مشروعها الإصلاحي والتنموي، إلى تشكيل تحالف دولي مكوّن من 83 دولة يعيد طرح “حلّ الدولتين”، ليس انطلاقًا من الحسّ بالمسؤولية القوميّة، أو الدينية، أو الإنسانيّة، بل فقط لأنّ قضيّة فلسطين باتت مشكلة أمنيّة وعاملًا لعدم الاستقرار في الدول العربية نفسها.
لا يعني هذا ضمانًا للمضي في الخطة إلى نهايات سعيدة، كما لا يعني انتفاء الإيجابيّة في هذا التوجّه والنشاط الدبلوماسي في ظرف معقّد، فكلّ ذلك متعلّق بالإرادة وبالنيّة، والرغبة في تفعيل أوراق الضغط والقوة المتوفّرة لدى الدول العربيّة.
إعادة إنتاج وهم حلّ الدولتين يعني تطبيع نظام الأبرتهايد والإبادة
لماذا ينطوي إعادة طرح حلّ الدولتين على وهم، وعلى إعادة إنتاج الكارثة؟
هناك أربعة أسباب:
– لا يتحدث الطرح عن ماهيّة الدولة، سيادتها، حدودها، واستقلالها، إنما عن كيان فضفاض يفتقر لأيّ معلم من معالم السيادة.
– لا يتحدث عن جدول زمني لتطبيقه.
– لا حديث عن اعتماد آليّة لتطبيق الحلّ، أي آليّة ضغط دولي حقيقيّ، اقتصادي ودبلوماسي وقانوني، على دولة مارقة ومتوحشة، وماضية في تغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي في الضفّة الغربية والقدس بصورة جذريّة، في تحدٍّ سافرٍ للقانون الدولي والمنظومة الأخلاقية.
– حلّ الدولتين هو حلّ مجحف بحق الشعب الفلسطيني، ولا ينصف حقه في تقرير المصير في كافة تجمعاته.
ضرورة تغيير براديغما الحلّ
منذ أن تكشّفت كارثة اتفاق أوسلو، وانفجار الانتفاضة الثانية، وبان الخداع الإسرائيلي بصورة فاضحة، اتّسعت الأصوات ضد “حلّ الدولتين”، وشملت قادة سابقين، مثقفين، أكاديميين، نشطاء، وغيرهم، مستندين إلى استنتاج وإعادة قراءة إسرائيل كمشروع كولونيالي استئصالي، أسوةً بمشاريع الغرب الكولونيالية التي تتناقض بنيتها مع أيّ حلّ وسط مع السكّان الأصليين.
وكانت نخبة واسعة من الفلسطينيين قد اعتقدت أنّه يمكن الوصول إلى حلّ وسط مع إسرائيل، وقد تم اختباره في اتفاق أوسلو، الذي أنتج عواقب كارثيّة مستمرّة؛ ماديّة وسياسيّة ومعنويّة على المشروع التحرّري الفلسطيني.
في مواجهة مخطط التطبيع مع المملكة السعودية، الذي سيعني – إذا لم يشتمل على تحديد شكل وحدود وسيادة الدولة المستقلة – إدامة حالة التيه وتكريس الكارثة الفلسطينية، هناك اتجاهان أو خياران، ربما لا ثالث لهما، من شأنهما كبح الاندفاع نحو مزيد من التطبيع وفتح أفق تحرّري حقيقي:
الأول؛ الإعلان عن برنامج يدعو إلى تحقيق حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بتجمّعاته الثلاثة: في الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس، واللاجئين والشتات، وفلسطينيي الـ48.
وبوحي من هذا البرنامج، يتّفق على شنّ حملة فلسطينية دولية، شعبية ورسميّة، تفضح مخاطر تطبيع نظام الأبرتهايد والإبادة، وتضغط من أجل وقف الإبادة، وإفشال مخطط التهجير الإجرامي في غزّة، وإعادة الإعمار بالسرعة الممكنة، ووقف وإزالة الاستيطان والحواجز في الضفّة والقدس، وإطلاق سراح الأسرى، ووقف كل أشكال القمع والقهر والملاحقة.
وهناك الكثير من معارضي حلّ الدولتين، ولكونه حلًّا جائرًا يكرّس جريمة الأبرتهايد والاستعمار، مستعدّون لتفهّم الحراك من أجل دولة فلسطينيّة مستقلّة في حدود عام 1967، كحراك تحشيدي وتعبوي ضد الرفض الإسرائيلي، بشرط ربطها بالسيادة والاستقلال الكامل، وتبنّي آليّة لفرض الحلّ، وليس مسارًا يؤدّي إلى دولة فلسطينيّة، كما يرشح على لسان السعوديين، كما يُشترط ربطه بالاعتراف بحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وضمان حقّ المساواة الكاملة لفلسطينيي الـ48.
الاتجاه الثاني؛ شنّ حملة تحت عنوان تفكيك نظام الأبرتهايد الكولونيالي القائم بين النهر والبحر، وإقامة العدالة والعيش المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في نظام ديمقراطيّ مساواتيّ. أي دولة ديمقراطيّة واحدة. وهذا هو الاتجاه الصحيح والعادل، والأقلّ تكلفة، في رأي مناصري حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية.
إنّ واقع علاقات القوّة الراهنة ينفي تحقّق أي من هذين الحلّين، في المدى القريب والمتوسط. فإسرائيل، المندمجة في حلف استعماريّ إمبراطوريّ غربيّ متوحّش، ترى نفسها منتصرة عسكريًّا، ويحكمها نظام فاشيّ، ووراءها مجتمعٌ مُعبّأٌ بصورة فاشية ضدّ الشعب الفلسطيني وحقّه في الوجود، ولهذا لن تذعن لأيّ من هذين المطلبين بدون ضغط حقيقي وتغيير في ميزان القوى، في مدى زمني ليس بقريب.
ولكن إسرائيل، رغم فائض القوّة العسكريّة الذي تمتلكه واصطفاف الغرب الاستعماريّ إلى جانبها، والتي كانت أصلًا تمرّ بتحوّلات داخليّة جذريّة، بسبب الصراع الداخلي، تعيش أزمة داخليّة غير مسبوقة، وسيكون لذلك إسقاطات عميقة على المدى المتوسّط والبعيد.
لا يمكن لنظام عنصري، كولونيالي، بالغ التوحّش، ويحمل في أحشائه تناقضات جوهريّة، ورافض لأيّ شكل من المصالحة مع السكّان الأصليين، ومعادٍ بنيويًّا للمساواة والسلام والعدالة، لا يمكن أن ينجو من المحاسبة الدوليّة الرسميّة والشعبيّة، أو ينجو من الانهيار الداخلي، وقد لا يستغرق ذلك عقودًا، بل أقل من ذلك.
لقد فقدت إسرائيل صورتها الأخلاقيّة التي رسمتها عن نفسها في الغرب وشعوبه، وثارت قطاعات واسعة من هذه الشعوب ضدّها.
ولم تعد تلك الدولة الواحة الديمقراطيّة المزعومة، التي كانت مرسومة في أذهان الغرب وبوعي الأجيال اليهوديّة الشابة، كما لم تعد تلك الضحيّة التي تستحقّ التعاطف، وبالتالي فإنّ قطاعات واسعة من الرأي العالمي، والعربي والإسلامي، باتت مهيّأة للتخلّي عن نظام عنصري، ولقبول صيغة إنسانيّة مساواتيّة في فلسطين.
وهذا مشروط بإعادة هيكلة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وامتلاك أفق واسع للحلّ واستراتيجيّة للعمل والتحشيد، وتطوير لغة وخطاب تحرّري عصري، بديلًا عن مفاهيم قديمة مُعيقة للتوسّع والتأثير في الرأي العام العالمي. لا بديل عن تبنّي مشروع تحرّري ديمقراطي وإنساني، تنخرط في طليعته شرائح الأجيال الجديدة الأكثر وعيًا وفهمًا وهضمًا لمتغيّرات المجتمع الإنساني.