في لحظة فارقة في تاريخ العملات الرقمية، تجاوزت عملة البيتكوين _عملة معماةلامركزية_، العملة المشفرة الأكبر من حيث القيمة السوقية، عتبة 108 آلاف دولار أمريكي، في ارتفاع غير مسبوق يعكس تحولات جوهرية في المشهد المالي العالمي، هذا التطور لا يمثل مجرد قفزة سعرية عابرة، بل يشير إلى تغيّر في طبيعة التوازنات بين النظام المالي التقليدي والنظام المالي اللامركزي الناشئ.
السياق العام: من ولادة البيتكوين إلى سيادتها الرقمية
FILE PHOTO: A representation of virtual currency bitcoin is seen in front of a stock graph in this illustration taken November 19, 2020. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration/File Photo
منذ ولادتها عام 2009 على يد شخصية مجهولة الهوية تحت اسم مستعار “ساتوشي ناكاموتو”، شقت البيتكوين طريقها بصعوبة وسط شكوك ومخاوف من الجهات التنظيمية والمالية، غير أنها نجحت، عبر أكثر من عقد من الزمن، في ترسيخ وجودها كبديل نقدي غير مركزي، مقاوم للتضخم وخارج عن سلطة البنوك المركزية.
و مع تجاوزها حاجز 108 آلاف دولار، تكون البيتكوين قد دخلت مرحلة جديدة من النضج، مُكرِّسة حضورها كأصل مالي استراتيجي، تتعامل معه كبريات المؤسسات، والبنوك الاستثمارية، وصناديق التحوط، بحذرٍ يوازي الاحترام.
الأسباب الكامنة وراء الارتفاع الصاروخي
1. التبني المؤسسي الواسع:
شهدت السنوات الأخيرة انخراط مؤسسات مالية كبرى في سوق العملات الرقمية، مثل BlackRock، Fidelity، وGoldman Sachs، كذلك، فإن إدراج صناديق ETFs (المتداولة في البورصة) الخاصة بالبيتكوين في البورصات الأمريكية أضفى طابعًا قانونيًا واستثماريًا جادًا عليها، مما زاد من جاذبيتها لدى المستثمرين الكبار.
2. بيئة اقتصادية عالمية مضطربة:
في ظل تصاعد مستويات التضخم، وازدياد القلق من ضعف العملات السيادية بعد موجات التيسير الكمي التي اتبعتها البنوك المركزية عقب جائحة كوفيد-19، توجهت الأنظار نحو أصول بديلة ذات طابع تحوطي، وعلى رأسها البيتكوين، باعتبارها “ذهبًا رقميًا”.
3. ندرة العملة:
تتميز البيتكوين بنموذج العرض الثابت، حيث لا يمكن إصدار أكثر من 21 مليون وحدة، ومع اقتراب التعدين من بلوغ الحد الأقصى، تزداد الندرة، ويزداد معها الطلب، مما يولّد ضغطًا تصاعديًا على السعر.
4. التحول الرقمي العالمي:
تزايد اعتماد الدول والمؤسسات على التكنولوجيا الرقمية، بما في ذلك العقود الذكية وتطبيقات التمويل اللامركزي (DeFi)، يجعل البيتكوين جزءًا من البنية الاقتصادية المستقبلية، وليس مجرد أداة مضارباتية.
انعكاسات مالية واستراتيجية على الاقتصاد العالمي
الأسواق المالية:
أدى الارتفاع القياسي إلى تحفيز أداء الأسواق المرتبطة بالأصول الرقمية، بما فيها عملات بديلة مثل الإيثيريوم وسولانا، كما ارتفعت أسهم الشركات العاملة في قطاع التعدين الرقمي وتكنولوجيا البلوكشين.
التحول في سلوك المستثمرين:
لم يعد الاستثمار في البيتكوين حكرًا على الأفراد أو المغامرين، اليوم، نجد محافظ تقاعد، وصناديق سيادية، وحتى بنوكًا مركزية تدرس جدوى إدخال الأصول الرقمية ضمن سياساتها الاستثمارية، مما يؤكد تحولًا نوعيًا في المفهوم التقليدي للنقد والادخار.
مخاطر كامنة:
رغم الإيجابيات، لا تزال المخاطر حاضرة، وعلى رأسها التقلبات السعرية الحادة، والاختراقات الأمنية، واحتمالات القيود التنظيمية، ما يفرض ضرورة بناء إطار قانوني دولي يضمن الحماية دون كبح الابتكار.
المغرب والعملات الرقمية: بين الحذر والانفتاح المؤجل
رغم الطفرة العالمية، ما يزال المغرب يُبدي موقفًا حذرًا من العملات المشفرة، فالبنك المركزي المغربي، إلى جانب وزارة الاقتصاد، حذّر من التعامل بها، بسبب ما اعتبره “مخاطر قانونية وأمنية وتنظيمية”، في حين لم تُعتمد بعد أي تشريعات واضحة تسمح باستخدامها أو تداولها.
في المقابل، أكد عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، في أكثر من مناسبة، أن العمل جارٍ على إعداد إطار قانوني متكامل لتقنين استخدام العملات الرقمية، بما يضمن حماية المستهلك واستقرار السوق المالية.
ويؤكد الخبير المالي المغربي إلياس بنسودة أن “المغرب مطالب اليوم بالإسراع في اعتماد آليات قانونية مواكِبة، ليس فقط لحماية اقتصاده من تداعيات غير محسوبة، بل أيضًا لاستثمار هذا التحول العالمي في الأصول الرقمية كرافعة مالية جديدة.”
رؤية الخبراء: بين التفاؤل والحذر
تقول الخبيرة الاقتصادية إيمان غنام، من المعهد الأوروبي للمالية الرقمية:
“البيتكوين تجاوز مرحلة الطفرة، اليوم نحن أمام أصل مالي بديل آخذ في فرض نفسه ضمن أنظمة الدفع والادخار، لكن الأهم هو بناء البنية التحتية القانونية والتكنولوجية المناسبة لتفادي الانفجارات السعرية القادمة.”
أما المحلل المالي وليد حمزة فيرى أن “الارتفاع قد يكون مؤقتًا إن لم يواكبه استقرار تنظيمي، فغياب التشريعات الواضحة يشجع على المضاربة والتهرب الضريبي، مما يهدد الاستقرار المالي في بعض الدول النامية.”
في الأفق: ماذا بعد 108 آلاف دولار؟
الأسئلة المطروحة اليوم لم تعد حول مشروعية البيتكوين، بل حول مدى قدرتها على الحفاظ على استقرارها في ظل التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، هل ستتحول إلى عملة احتياط عالمية؟ هل ستفرض نفسها كأداة دفع يومية؟ أم أن تقلباتها ستبقيها رهينة للمضاربة؟
الجواب يكمن في كيفية تعامل الحكومات والبنوك المركزية مع هذه الظاهرة، وفي مدى قدرة الأسواق على استيعاب عملة غير خاضعة لسلطة مركزية، في عالم لا يزال يرزح تحت أثقال التشريعات التقليدية.
فتجاوز البيتكوين لحاجز 108 آلاف دولار ليس نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين القديم والجديد، بين النظام المالي القائم والنظام البديل.
إنها لحظة اختبار حقيقية للنظام النقدي العالمي، تُلزم الحكومات والمستثمرين والخبراء بإعادة التفكير في مفهوم “القيمة”، و”السلطة النقدية”، و”الاستقلال المالي”.