
من قلب الموت..موسيقيون في غزة يعزفون للحياة
في خيمة مؤقتة نصبت وسط ركام حي سكني مدمر في مدينة غزة، وبينما لا تزال أصوات الطائرات الحربية تحلق في الأجواء، تنبعث أنغام موسيقية هادئة تعزف على آلة العود.
وسط هذا المشهد الذي يطغى عليه الدمار والقلق، يجلس الموسيقي الفلسطيني أحمد أبو عمشة عازفاً بإصرار على أوتار الأمل، متحديا واقع الحرب بمشروع فني غير مألوف في منطقة تصارع للبقاء.
يصر أبو عمشة (43 عاماً)، وهو مدرّس موسيقى على الأداء من أجل شفاء نفسي للأطفال
منذ اندلاع حرب الإبادة، يعيش سكان القطاع تحت ظروف إنسانية بالغة الصعوبة، مع دمار واسع في البنية التحتية، وشح في المواد الأساسية، ونزوح داخلي قسري طال أكثر من 90 في المئة من السكان وفق بيانات الأمم المتحدة.
لكن في قلب هذا الظلام، يصر أبو عمشة (43 عاماً)، وهو مدرّس موسيقى سابق في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى والمدرسة الأميركية الدولية، على أن يواصل عمله الفني، لا من أجل الأداء فحسب، بل من أجل شفاء نفسي للأطفال الذين دمرت الحرب عوالمهم.
منذ بدء الحرب، نزح أبو عمشة مع عائلته أكثر من 12 مرة. وفي كل مرة، كما يروي، يضع آلته الموسيقية ودفتر نوتاته على رأس قائمة ما يأخذه معه، حتى قبل الطعام أو الملابس.
“طيور غزة تغني” فكرة شخصية للتعامل مع الصدمة
“الموسيقى هي الشيء الوحيد الذي لم تسلبه مني الحرب”، يقول مشيراً إلى أن المبادرة التي يقودها، تحت اسم “طيور غزة تغني”، بدأت كفكرة شخصية للتعامل مع الصدمة، ثم تحولت إلى مشروع صغير يجمع الأطفال النازحين في جلسات موسيقية دورية تهدف إلى توفير متنفس نفسي واجتماعي لهم.
هؤلاء الأطفال، الذين فقد الكثير منهم منازلهم أو أقاربهم أو أصدقاءهم، يظهرون علامات متزايدة على الاضطراب النفسي، وفق ما يؤكده أخصائيون في الصحة النفسية.
وتشير منظمات إنسانية عاملة في الميدان إلى ارتفاع حالات التوتر، الأرق، الانطواء، وفقدان النطق نتيجة الصدمة، إلى جانب نوبات الذعر المتكررة.
المبادرة الموسيقية، كما يوضح أبو عمشة، لا تهدف فقط إلى تعليم النوتة والسلم الموسيقي، بل إلى توفير مساحة للتعبير عن مشاعر لا يمكن قولها بالكلمات.
من بين الأطفال المشاركين في هذه الجلسات، تبرز يارا، ابنة شقيق أحمد أبو عمشة، والتي تبلغ من العمر 14 عاماً.
الموسيقى باتت تمثل ملاذاً في لحظات الخوف
فقدت منزلها مرتين خلال الحرب، لكنها لا تزال تحتفظ بكمانها وتعتبره جزءا من هويتها.. وتقول: “عندما أعزف، أنسى القصف والخوف وحتى الجوع.طيور غزة تغني”، بدأت كفكرة شخصية للتعامل مع الصدمة”.
أما معين، ابن أبو عمشة البالغ من العمر 19 عاماً، فقد نزح مراراً مع أسرته، لكنه لا يترك مزماره أبداً.. “إنه مثل التنفس”، يقول، مضيفاً إن الموسيقى باتت تمثل له ملاذاً في لحظات الخوف.
المشروع الذي انطلق من منطقة المواصي في خان يونس، جنوب القطاع، يشمل اليوم العشرات من الأطفال في أماكن متفرقة من غزة.
يجتمعون كل بضعة أيام، بحسب الوضع الأمني، للعزف والغناء ومشاركة القصص الموسيقية، بحسب أبو عمشة.
في ظل غياب الكهرباء وانعدام الموارد، تسجل بعض هذه الجلسات بهواتف محمولة وتنشر على الإنترنت، حيث لاقت صدى واسعاً ولفتت انتباه متابعين من خارج القطاع، بما في ذلك بعض العروض للمساعدة التقنية والدعم النفسي من موسيقيين ومؤسسات خارجية.
التعبير عن مشاعر دون التكلم
سليم العطار، طفل يبلغ من العمر 12 عاماً، نزح من بيت لاهيا، لم يسبق له أن لمس آلة موسيقية في حياته.. ويقول: “أحمد علّمني العزف على المزمار.. أصبحت قادراً على التعبير عن مشاعري دون أن أتكلم”.
كذلك ريما، فتاة في الثالثة عشرة من عمرها فرت من حي الشجاعية، وجدت في العزف على العود وسيلة للثبات. وتقول: “كنت أرتجف كلما سمعت صوت طائرة. اليوم، أشعر أن أوتار العود تهدئني وتحميني”.
من جانبه، يأمل أبو عمشة في توسيع هذه المبادرة وتحويلها إلى “مدرسة موسيقى متنقلة” تعمل بين مخيمات النزوح ومراكز الإيواء، وتوفر للأطفال دروساً موسيقية وبرامج دعم نفسي غير مباشر.
نحتاج فقط مساحة صغيرة وآلات وبعض الاستقرار
ويوضح أن المشروع يمتلك مقومات الاستمرارية من حيث الكوادر، إذ هناك موسيقيون متطوعون مستعدون للمشاركة، لكن ما ينقصه هو التمويل والدعم الفني واللوجستي.. ويقول: لا نحتاج إلى قاعات فاخرة، فقط مساحة صغيرة وآلات وبعض الاستقرار.
رغم كل التحديات، لا يزال حلم العودة إلى معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى قائماً في ذهن أبو عمشة..
حلم أن يجمع تلاميذه الذين تبعثروا بفعل الحرب، ويقيم معهم حفلاً موسيقياً يعلن من خلاله أن غزة، رغم كل ما مرت به، ما زالت تنبض بالحياة والإبداع.
ويضيف: قد تكون الحرب صاخبة اليوم لكن الموسيقى أعلى صوتاً وأكثر قدرة على البقاء.. هي ذاكرة الشعوب، ومقاومة صامتة لا تقهر.
اقرأ أيضا…
إسرائيل قتلت أكثر من 100..عازف بيانو مشهور يلغي حفله بأستراليا بعد معزوفة أهداها للصحافيين بغزة