ليست “لا” التي رفعتها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في وجه مشروع القانون 54.23 مجرّد موقف تقني، ولا هي مجرّد اعتراض على تدبير إداري، إنها “لا” تنتمي إلى جغرافيا أعمق، حيث تتقاطع كرامة الإنسان بحقه في الصحة، ويتلاقى التاريخ النقابي بصوت الذين لا صوت لهم في دهاليز القرار.
فأن يسند تدبير التأمين الإجباري عن المرض للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ليحل محل صندوق منظمات الاحتياط الاجتماعي، ويصبح بذلك المدبر الوحيد لواحد من أكثر الحقوق حساسية، فذاك ليس مجرد “إصلاح”، بل هو اختيار سياسي يعاد فيه رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وبين الحقوق والمصالح، وبين الكرامة والحسابات.
من داخل لجنة التعليم والشؤون الثقافية بمجلس المستشارين، عبّرت المستشارة فاطمة زكاغ عن موقف واضح لا يقبل المراوغة، وهو الموقف الذي تنطق به قواعد الكونفدرالية وقرارات مجلسها الوطني، وترفعه أصوات مناضليها الذين ظلوا طيلة عقود وهم يخبرون أن الحقوق لا تدار بمنطق التمركز، وأن التوحيد القسري لا يُنتج عدالة، بل يعيد إنتاج الهيمنة.
الكنفدرالية تدافع عن فلسفة الكونبس
فالكونفدرالية، إذ ترفض دمج CNOPS داخل CNSS، لا تدافع فقط عن مؤسسة، بل عن فلسفة CNOPS،حيث بالرغم من هشاشتها، تظل في نظر كثيرين رمز لتاريخ التعاضد، ولعلاقة مختلفة بين المؤمن والمؤسسة، علاقة لم تكن قائمة فقط على التغطية، بل على نوع من القرب، والمواكبة، والمشاركة في التدبير، وإن شابها ما شابها.
تجدر الاشارة ان الكونفدرالية اعتبرت مشروع القانون المصادق عليه من قبل الأغلبية داخل اللجنة، غيب الروح التشاركية، وطمس الوفاء لمخرجات الحوار الاجتماعي، كما جاء في اتفاقي أبريل 2022 و2024، فبالنسبة اليها ما حضر هو المسطرة، ما سُمِع هو صوت من صوّتوا بـ”نعم” دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مساءلة العمق الحقوقي لما يمرر باسم الإصلاح.
اعتراض كدش دفاعا عن كرامة المرضى
الدمج، في نظر الكونفدرالية، لا يتعلق فقط بهياكل وتفويضات، بل يمس فلسفة التعاضد، التي وإن اعتراها خلل، ظلت تحمي فكرة الجماعة في مواجهة السوق، وتحفظ للمرضى شيئ من الكرامة في مؤسسة ترى فيهم أكثر من أرقام، أن تمحى هذه الفلسفة بمرسوم، وأن يترك مصير الاتفاقيات مع الجمعيات التعاضدية رهن قرار سياسي، فتلك خطوة لا يمكن إلا أن تُقرأ كإلغاء تدريجي لصوت الشريك الاجتماعي، وتمهيد لصيغة تدبيرية تفصل الدولة عن التزاماتها الأخلاقية.
جدير بالذكر أن اللجنة عرفت غياب بعض ممثلي الفرق الحزبية، وفي مقدمتهم الاتحاد الاشتراكي، عن جلسة التصويت، فلا يزيد المشهد إلا غموض، ويطرح سؤال مُلحا عن موقع الأحزاب من قضايا العدالة الاجتماعية، وعن منطق التغيب في لحظة يُراد فيها إسكات صوت التاريخ النقابي، تحت غطاء التبسيط والتقنين.
هي ليست معركة صندوقين، ولا صراع صلاحيات، بل مسألة حقوق تُمس في جوهرها، وتُعاد صياغتها على مقاس الإدارة لا على مقاس الإنسان.
لا الكنفدرالية جرس إنذار
في وجه هذا التمرير الصامت، ارتفعت “لا” الكونفدرالية كجرس إنذار، تذكّر بأن تأميم المرض لا يعني تسويقه، وأن التبسيط الإداري لا يمكن أن يكون بديلًا عن العدالة، المطلوب اليوم ليس نقل التأمين من صندوق إلى آخر، بل إعادة الاعتبار للمريض كمواطن، وللنقابة كشريك، وللعدالة كأفق لا يُختصر في مراسيم.
وتجدر الإشارة إلى أن التعقيدات لم تقف عند حدود الدمج المؤسساتي، بل امتدت إلى تفاصيل المسطرة ذاتها، حيث فرض الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي شروط إدارية جديدة، أبرزها ضرورة التصريح بالمستخدمين عن طريق وزارة الداخلية، اي التعريف الوطني الموحد ما أفرز عراقيل إضافية في وجه عدد من الجمعيات والمؤسسات، خصوص تلك التي تشتغل في المجال الاجتماعي أو التربوي أو المدني.
هذا الإجراء، الذي لم يُعرض على أي نقاش مسبق، يعد، في نظر الفاعلين النقابيين، تقييدا غير مبرر لمسار التسجيل في نظام الحماية الاجتماعية، وتحويلا لحق دستوري إلى عملية بيروقراطية معقدة، تقصي بدل أن تيسر، وتخضع بدل أن تنصف.