أنا من مواليد 1950، ورثت عن والدي نكبة 1948، ونشأت أرضع هذا الإرث، حاملا على أكتافي، مثل أبناء جيلي، أثقال تاريخٍ من المآسي المتتالية، جيلٌ عاش في بطن العاصفة الكارثية، وشهد كل محطةٍ من محطات الخيبات الكبرى، حتى أصبحت معاناته سرديةً وجوديةً للفقدان والعجز والكرامة المنتهكة.
لم أعش النكبة مباشرة كحدثٍ مفاجئ، لكني وُلدت في بيتٍ يحمل رائحة الشتات والوجع الموروث.
سمعت حكايات الأرض المغتصية (فلسطين)، وشاهدت دموع الآباء والأمهات على البيوت والأراضي المسلوبة بقوة الحديد والنار. نشأت وأنا أحمل هوية اللجوء والفقد، لشعب يعيش في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة، أو مشتت في دولٍ عربيةٍ كانت تعاني بدورها من مخاضات الاستقلال وهشاشة البناء.
النكبة ليست مجرد حدثٍ تاريخي بل واقعاً يومياً عاشه جيلي
كانت النكبة ليست مجرد حدثٍ تاريخي، بل واقعاً يومياً عاشه جيلي بكثير من مشاعر الحرمان، والتمييز، والشعور بالغربة حتى داخل وطننا. مما ألهب في نفوسنا وعقولنا روح المقاومة والأمل في تجاوز النكبة وآثارها.
ونحن في ريعان الشباب، يحدونا أمل التحرير ومحو آثار النكبة، جاءت “النكسة” لتهز كياننا وتدمر أحلامنا. لم تكن هزيمة عسكرية فحسب، بل كانت كارثة وجودية. سقوط القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء في أيام قليلة، كان بمثابة صفعة قاسية على وجه جيلٍ آمن بقدرة الأنظمة العربية وقوتها.
تحولت الشعارات الرنانة عن التحرير والعروبة إلى سراب، وانهارت الثقة في القيادات السياسية والعسكرية. وشعرنا بالخيانة والإذلال على المستوى القومي والفردي. كانت النكسة لحظة تحول عميق من الأمل إلى اليأس، ومن الثقة إلى الشك المرير.
جيلي عاش تحت وطأة الاستبداد السياسي
وما إن بدأنا نستوعب صدمة 1967، حتى وجدنا أنفسنا غارقين في مستنقع الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات العسكرية أو القمعية التي سيطرت على كل الأقطار العربية. فعشنا تحت وطأة الاستبداد السياسي، حيث سُحقت الحريات، واختفى المعارضون في سجون مظلمة، وصودرت إرادة الشعوب لصالح بقاء الحاكم الفرد.
وعم الخوف الدائم والرقابة المستمرة والخطاب السياسي المفرغ من المضمون، والمليئ بكل ما يبرر التفقير المنظم ونهب ثروات الأوطان، وسيادة الفساد المالي والإداري، وتراجع الخدمات الأساسية من تعليم وصحة.
وتحول التنمية إلى شعارات، وازدياد الهوة بين طبقة حاكمة مترفة وشعوب تعاني الفقر والبطالة والمرض وما رافق ذلك من تجهيل متعمد حيث تم تهميش التعليم الجاد النقدي، وتحويل المؤسسات التعليمية إلى أدوات لتلقين الأيديولوجيا الرسمية وغسل الأدمغة.
إهمال الفكر النقدي ومحاصرته لصالح التلقين والتبعية أفرز أجيالا أكثر قابلية للتوجيه
وإهمال الفكر النقدي أو محاصرته لصالح التلقين والتبعية، مما أفرز أجيالاً أقل كفاءةً وأكثر قابلية للتوجيه، وأكثر قبولا وخضوعا لتدمير الكرامة الإنسانية، والاستئناس بالإذلال اليومي في مختلف مناحي الحياة العامة، وفي تعاملات الموظفين الفاسدين، وانتهاك خصوصية وأمن المواطنات والمواطنين من قبل أجهزة الأمن، بما يولد الشعور الدائم بالعجز أمام جبروت السلطة.
ويتربع على عرش الخيبات ما عشناه من خيانة كبرى للأنظمة ضد آمال شعوبها وهي المأساة الأعمق التي شكلت الفجوة الهائلة بين آمال جيلنا الجامحة في الحرية والعدالة والوحدة والكرامة، وبين واقع الأنظمة التي خانتها جميعاً.
فعاينا كيف تحولت المشاريع القومية والتحررية والاشتراكية والناصرية والبعثية إلى أدوات لخدمة مصالح ضيقة وكيانات طائفية أو عائلية. ورأينا كيف باعت الأنظمة القضية الفلسطينية في مفاوضات مشبوهة، أو استخدمتها شماعة لشرعنتها دون فعل حقيقي.
نعاين المشهد الفلسطيني بما يعرفه من استمرار للاحتلال ووحشيته وهمجيته
فشعرنا أن جيلنا بشعاراته وأحلامه لم يكن سوى وقود في حروب عبثية (مثل الحرب الأهلية اللبنانية، الحرب العراقية-الإيرانية) أو أدوات في صراعات إقليمية حيث كانت الخيانة هي السمة الأبرز لعلاقة الأنظمة بالشعوب وبطموحاتها.
وها نحن اليوم، في شيخوختنا، نواجه مشهداً هو الأقسى في رحلة المعاناة الطويلة، ونحن نعاين المشهد الفلسطيني بما يعرفه من استمرار للاحتلال ووحشيته وهمجيته، وحصار غزة المميت، والاستيطان المتوغل، وتفريغ القضية من مضمونها، بينما تقف الأنظمة العربية عاجزة أو متواطئة، والشعب الفلسطيني يدفع الثمن الأقسى في سلسلة لا تنتهي من المجازر والتهجير.
وها نحن نعاين عاجزين الحروب الأهلية والتدخلات في أوطان تمزقها حروب أهلية طاحنة (سوريا، اليمن، ليبيا)، مدعومة من أطراف إقليمية ودولية، تُذبح فيها الكرامة الإنسانية يومياً، وتُهجر الملايين، وتُدمر البنى التحتية التي شيدها الفقراء بدمائهم.
وها نحن نشهد على الانهيار الشامل للدول والمؤسسات، وتراجع الخدمات بشكل كارثي، وارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر والبطالة، وانهيار قيم المواطنة والكرامة العدالة، وفقدان أبسط مقومات العيش الكريم.
وها نحن ينخرنا العجز والوهن ونحن نعيش هذا المشهد المأساوي بعد عمرٍ من النضال والصبر، نجد أنفسنا عاجزين عن حماية ذواتنا، أو أبنائنا، أو أحفادنا من هذا الانهيار المصحوب بالوهنٌ النفسيٌ العميقٌ جراء تراكم الخيبات وفشل كل المشاريع التي آمنا بها.
نحن جيل منكوس حقاً حيث انقلبت أحلامنا رأساً على عقب
نعم، نحن جيل منكوب بحق بالنكبات المتتالية. ونحن جيل منكوس حقاً، حيث انقلبت أحلامنا رأساً على عقب. ونحن جيل مقتول معنوياً قبل القتل الجسدي بفعل القهر المستمر واليأس. ونحن جيل منهوك تماماً من طول المعاناة وثقل الأوزار والخيبات.
لكن في قلب هذه السردية المظلمة، تكمن بطولة صامتة. بطولة الصمود في وجه العواصف، وبطولة الحفاظ على الإنسانية في ظل ظروف لا إنسانية، وبطولة تربية أجيال جديدة رغم كل الصعاب، وبطولة الحفاظ على ذاكرة النكبة والنكسة والخيبات كي لا تُنسى.
كتابة تاريخ هذا الجيل ليست مجرد سردٍ للمآسي، بل هي واجبٌ للاعتراف بمعاناة جيلنا، وفهم جذور الأزمات الحالية، وتكريم صمودنا القهري. إننا شهود أحياء على قرنٍ من الخيبة القومية والوطنية، وشهادتنا وإن كانت محفورةً بدم القلب، تبقى نوراً يُنير الطريق للأجيال القادمة، كي لا تكرر مآسي الماضي، وكي تناضل من أجل مستقبلٍ لا مكان فيه للنكبة والنكسة والخيانة. رحم الله من رحل منا، وأمد في عمر من بقي، وأمنحنا القليل من السلام والكرامة في ما تبقى من أيامنا.