الرئسيةرأي/ كرونيك

تحذيرات مواطن مغربي من القرن الماضي

بقلم عبدالرحمان الغندور
من حق جيلي، ولا سيما من تحمل منهم ضرائب النضال من أجل مغرب آخر، من حقهم أن يخافوا على مستقبل هذا الوطن، وقد عاينوا منذ القرن الماضي، ويعاينون اليوم، المآلات الكارثية التي آلت إليها أوضاع البلاد والعباد.
إن السؤال عن مصير المغرب واتجاهه في خضم هذه التحولات والعواصف المجتمعية هو سؤال مصيري، يلامس جوهر وجود الدولة والمجتمع معاً. وإن تشخيص الوضع الحالي لا ينفصل عن تحليل جذوره التاريخية وتراكماته البنيوية، فما تشهده الساحة اليوم من هزات وانزياحات ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تفاعل معقد لعقود من السياسات والممارسات التي أفرزت واقعاً أشبه بجسم مريض تنهشه أمراض متعددة في آن واحد.

لم يعد الفساد مجرد حالات فردية عابرة بل تحول إلى مؤسسة لها قواعدها وأركانها ورجالها

لقد استشرى الفساد فعلاً، ليهيمن على كل المستويات من القمة إلى القاعدة، مُشكّلاً شبكة معقدة من المصالح المتشابكة التي تقاوم الإصلاح وتُعطل أي محاولة للتغيير.
فلم يعد الفساد مجرد حالات فردية عابرة، بل تحول إلى مؤسسة لها قواعدها وأركانها ورجالها، بما يضمن استمراريتها عبر آليات المحسوبية والزبونية والريع، التي أنهكت مؤسسات الدولة وحولتها إلى أدوات لخدمة مصالح فئة ضيقة على حساب الصالح العام.
وأدى ذلك إلى تآكل ثقة المواطن في الدولة بمؤسساتها، وشعوره بأنها لم تعد تخدمه أو تحمي حقوقه، بل أصبحت عقبة أمام تطلعاته.

هذا الفساد الهيكلي كان له تأثير كارثي على القطاعات الحيوية.

ففي التعليم، نرى تراجعاً مخيفاً في الجودة يؤدي إلى تخريج أجيال لا تمتلك أدوات العصر، مما يغذي دائرة الجهل ويحد من فرص التنمية الحقيقية القائمة على المعرفة. وفي الصحة، يعاني النظام من ضعف مزمن في التمويل والبنية التحتية، مما يحرم شرائح كبيرة من الحق في علاج لائق، خاصة مع تزايد الفقر والهشاشة الاجتماعية.
لقد وسّع الفساد من هوة اللامساواة، فبينما تتراكم الثروات في أيدي قلة، تغرق أغلبية المجتمع في هموم البحث عن قوت يومها، في مشهد ينذر بانفجار اجتماعي أصبحت إشاراته واضحة في شكل احتقان متصاعد يعبر عن نفسه بين الفينة والأخرى عبر احتجاجات عفوية أو عبر سخط صامت لكنه عميق.
هذا الاحتقان المجتمعي هو العلامة الأكثر خطورة، فهو مؤشر على انسداد الأفق وغياب القنوات السلمية للتعبير والتغيير. إنه ناتج عن إحساس جماعي بعدم جدوى الآليات القائمة، وعن فقدان الأمل في إمكانية الإصلاح من الداخل.

الواقع يشير إلى فراغ قيادي حاد

وهنا يبرز السؤال الملحّ عن دور النخب والقيادات القادرة على قيادة تغيير سلمي. فالواقع يشير إلى فراغ قيادي حاد، إما بسبب انشغال النخب السياسية التقليدية بالصراعات الهامشية وتوازنات المصالح، أو بسبب تقييد أي محاولة لبروز قيادات جديدة مستقلة تمتلك رؤية وجراءة التغيير.
في مواجهة هذا المشهد المعقد، يبدو السؤال عن الخيارات مصيرياً بالفعل. الخيار الأول، وهو الأسوأ، هو الاستمرار في سياسة الترقيع وإدارة الأزمة دون معالجتها، والارتماء في أحضان اللوبيات والمصالح الضيقة التي تتحكم في دواليب القرار.
هذا المسار لا يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور، حيث سيزداد تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وستتفاقم الأزمات إلى درجة قد تعصف باستقرار المؤسسات نفسها، بما فيها المؤسسات الضامنة للاستقرار وعلى رأسها المؤسسة الملكية، وذلك لأن ديمومة أي نظام مرتبطة بشرعيته وقدرته على تلبية الحد الأدنى من طموحات شعبه.
إن استمرار الفساد وتضارب المصالح داخل دوائر صنع القرار سيقود لا محالة إلى فقدان هذه الشرعية، وسيفتح الباب أمام مخاطر غير محسوبة، قد تأتي من داخلها أو من خارجها.
أما الخيار الثاني، فهو خيار الإصلاح الجذري والشامل، الذي يبدأ بالاعتراف بحجم المأزق وضرورة تجاوز منطق الترقيع.
هذا الإصلاح يجب أن يكون سياسياً ودستورياً واقتصادياً واجتماعياً، يمس جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وبين الملك والشعب.

إصلاح دستوري يحدد صلاحيات ومسؤوليات كل مؤسسة بشكل واضح لا هيمنة لأية مؤسسة على المؤسسات الأخرى،

إصلاح سياسي يضمن فصل السلط واستقلال القضاء ويوسع هامش الحرية والمشاركة السياسية الحقيقية ويسمح بتداول السلطة بطريقة شفافة ونزيهة، تنتهي معها هيمنة الأوليغارشيات.
وإصلاح دستوري يحدد صلاحيات ومسؤوليات كل مؤسسة بشكل واضح لا هيمنة لأية مؤسسة على المؤسسات الأخرى، ويضمن الحقوق والحريات، ويؤسس لرقابة فعالة على السلطة التنفيذية.
وإصلاح اقتصادي يكسر احتكار القطاعات ويدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ويشجع المنافسة الشريفة ويوجه الاقتصاد نحو الإنتاج والابتكار بدلاً من الريع والاحتكار. وإصلاح اجتماعي يعيد هيكلة أنظمة التعليم والصحة والتضامن الاجتماعي لضمان تكافؤ الفرصول وعدالة توزيع الثروة.

في الجاجة لإرادة سياسية قوية

لكن العقبة الكبرى في وجه هذا الخيار الثاني هي هيمنة نفس الفاسدين على مفاصل القرار، وتشابك مصالحهم الذي يجعلهم يقاومون أي تغيير حقيقي يهدد امتيازاتهم. هنا تبرز الحاجة إلى إرادة سياسية عليا، مستقلة عن هذه الشبكات، قادرة على كسر هذه الحلقات وفرض أجندة الإصلاح حتى لو كان الثمن مرتفعاً.
إنها معركة مصيرية تتطلب تحالفاً بين كل القوى الحية في المجتمع، من مثقفين وإعلاميين ونشطاء ومجتمع مدني، لخلق توازن قوى جديد يفرض التغيي، من خلال جبهة عريضة وواسعة تعتمد على حد أدنى من التوافق من أجل مصلحة الوطن ومستقبله.
ورغم قتامة المشهد، فإن تاريخ المغرب يحمل في طياته عوامل صمود ومرونة. إن روح المقاومة والكرامة المتجذرة في المجتمع المغربي، مع ما تتوفر عليه البلاد من إمكانيات بشرية وطبيعية، تشكل رصيداً يمكن الاعتماد عليه. إذ لا يوجد شعب محكوم بالفساد إلى الأبد، والتاريخ يشهد أن الأمم تمر بأوقات عصيبة لكنها قادرة على النهوض عندما تتوفر الإرادة الجماعية.

تجاوز هذا المأزق يتطلب  صحوة جماعية

إن مستقبل المغرب بقدر ما هو محكوم بخيارين حتميين بين السقوط والنهوض، بقدر ما يشكل مساحة صراع مفتوحة، نتاجها يتحدد بقدرة قوى الإصلاح على التنظيم ووضوح الرؤية والشجاعة، واستعداد النخب الحاكمة لقراءة علامات الساعة-، وإدراك أن الإصلاح هو الطريق الوحيد لضمان الاستقرار والاستمرارية.
إن تجاوز هذا المأزق يتطلب أكثر من مجرد إرادة فردية، بل هو بحاجة إلى صحوة جماعية، من أعلى الهرم إلى مختلف القوى التي يعج بها المجتمع، صحوة تضع الوطن فوق المصالح الضيقة، وتعيد الاعتبار لقيم العدالة والكرامة التي هي أساس كيان دولة تمتلك مصيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى