تنطلق الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي بين 16 و24 أكتوبر 2025 محملة بمزيج من الاحتفاء التاريخي والطموح الصناعي: 70 فيلماً من 42 دولة، احتفاء بمئوية ميلاد يوسف شاهين (27 يناير 1926) وتكريم للفنانة منة شلبي بجائزة «الإنجاز الإبداعي»، إلى جانب ضيفة شرف عالمية هي النجمة الأسترالية كيت بلانشيت التي ستتسلم جائزة «بطلة الإنسانية» وتخوض حواراً عاماً ضمن منصة «سيني جونة».. تطرح هذه المعادلة سؤالاً محورياً عن هوية المهرجان: هل هو فضاء لاستدعاء الذاكرة الفنية أم “سوق” يتسابق لبناء نفوذه على خارطة المهرجانات الدولية؟
الاحتفاء بشاهين: استدعاء الذاكرة وصياغة الوصاية الثقافية
اختار مهرجان الجونة أن يجعل مئوية يوسف شاهين حدثاً محورياً يدلّ على رغبة واضحة في ربط اسم المهرجان بذاكرة سينمائية مؤسسة للهوية السينمائية العربية، وقد أعلن المهرجان عن برنامج استعادي مركّز، يتجاوز مجرد عروض الأفلام إلى تجربة معمارية وحسية: معرض يستوحي بنية فيلم «باب الحديد» ويحوّل متاهة السرد السينمائي إلى «محطات» يدخل منها الزائر إلى فصول مختلفة من فيلموغرافيا المخرج.. اختيار هذا الشكل يقرأ “كخطوة نقدية “ليس لتقديس الذاكرة فحسب، بل لقراءة آثار شاهين على أجيال من المخرجين الذين ستُعرض أعمالهم ضمن نفس البرنامج كدليل ملموس على إرثه كـ«الأب الروحي» لموجة جديدة من السينما العربية.
منة شلبي: جائزة إنجازٍ بين الكم والنوع
منح «الإنجاز الإبداعي» لمنّة شلبي يؤكد أن الجونة لا يكتفي بالبعد الاحتفالي التاريخي، بل يربط بين هذا البعد والنجومية المعاصرة.. فمنة شلبي بتجربتها من خلال 40 فيلماً و20 عملاً درامياً و التنّوع التمثيلي (كوميديا، تراجيديا، دراما اجتماعية). وتكريمات مصرية وعربية.. يجعلها مرآة للسينما الشعبية والنخبوية في آنٍ واحد، مثل هذا التكريم يعمل بوصفه ورقة تفاوضية: يرسّخ ارتباط المهرجان بالوجوه الوطنية التي تجذب الجمهور وتَسهِم في رفع قيمة الفعاليات التجارية والثقافية.
توازن الأرقام: برنامج غني لكنه يحمل رسائل واضحة
تؤكد الأرقام الرسمية أن الدورة تعرض حتى الآن 70 فيلماً من 42 دولة، منها 10 أفلام في مسابقة الروائي الطويل، و10 فيوثائقية طويلة، و17 في المسابقة القصيرة، أي أن 37 فيلماً (حوالي 52.9%) تتنافس داخل مسابقات رسمية، بينما يبقى ثلثا البرنامج في خانة العروض الخاصة والخارجية..
منصة «سيني جونة» اختارت 19 مشروعاً من بين 290 مقدمًا، بمعدل قبول يقارب 6.6% ما يوضح الانتقائية وحرص المهرجان على إبراز مشاريع يراها قابلة للتعاون الدولي، كذلك يشير وجود 30 شركة عرض تمثل 10 دول إلى أن السوق يكبر تدريجياً ويبحث عن شرعية تجارية وتقنية إلى جانب البعد الثقافي.
الارتباط بالمهرجانات الكبرى والشرعية الدولية
تضم قائمة الأفلام المشاركة أعمالاً لافتة وصلت إلى مهرجانات كبرى (كان وبرلين)، بما في ذلك أفلام حصلت على جوائز أو ترشيحات مهمة؛ هذا الارتباط يعطي الجونة رصيداً دولياً ويسهل استقطاب مهرجانات ومستثمرين وشراكات إنتاجية، فوجود أفلام من طيف واسع من اليابان وإسبانيا وكولومبيا إلى تونس ومصر، يعكس رغبة واضحة في أن يتحوّل الجونة إلى عقدة تلاقٍ بين السينما العربية والعالمية.
سياسة العروض والتوسع المحلي
و تُعد إتاحة عروض المهرجان أيضاً عبر سينما «زاوية» بالقاهرة خطوة استراتيجية تهدف لتوسيع دائرة المشاهدة داخلياً، والربط بين جمهور الساحل والجمهور الحضري في العاصمة،تترجم هذه المبادرة كرغبة في زيادة التأثير المحلي للمهرجان وتوسيع سوقه الجماهيري، وهو أمر ينعكس إيجاباً على مقدّمي الأفلام وصناعات التوزيع المحلية.
التفاعل السياسي والإنساني: نافذة على فلسطين ومبادئ الشعار
استمرار برنامج «نافذة على فلسطين» والتركيز على أفلام تُسلط الضوء على مأساة غزة يجعل من المهرجان منصة ليس فقط للفن بل للتعبير الإنساني والسياسي..
شعار «سينما من أجل الإنسانية» الذي يؤكده نجيب ساويرس يتحول هنا من بيان نيات إلى استراتيجيا برمجية، لكن هذا الانتقال لا يخلو من مخاطرة: تحويل الحدث الثقافي إلى منبر سياسي قد يجلب تضامنًا واسعًا لكنه قد يعرّض المهرجان لانتقادات أو ضغوط خارجية، وهي لعبة مألوفة على خارطة المهرجانات الدولية.
المنصات الإنتاجية والسوق: من الاختيار إلى التمويل
اختيار 19 مشروعاً من 290، وتمثيل 12 دولة عربية بالتعاون مع 5 دول غربية، يؤكد أن «سيني جونة» يعمل كمحرّك لفرص التمويل والتشارك الدولي، و يمثل السوق والمسرح الجديد «الجزيرة» الذي سيستضيف ورش العمل والحوار منصة لتعزيز الطموح و لتحويل الجونة من مهرجان عرض إلى حاضنة إنتاجية و حاضنة للصفقات.. هذا التطور مهم لصناع السينما المحليين الذين يسعون إلى شراكات دولية، لكنه يضع أيضاً مسؤوليات على إدارة المهرجان لضمان أن تعود هذه الصفقات بنفع حقيقي على صناعة محلية لا تزال تكافح من أجل بنية تحتية مستقرة.
المهرجان بين الطموح والرهان
دورة الجونة الثامنة تقدم خليطاً واضحاً من الاحتفاء التاريخي والطموح المؤسسي: تمنح مئوية يوسف شاهين المهرجان عمقاً ثقافياً وتاريخياً، وتكريم منة شلبي يربطه بالوجوه المعاصرة التي تملك جذور الجمهور، في حين تعمل منصة السوق وبرامج الدعم على تحويل هذا الاحتفاء إلى موارد وبنى إنتاجية.
ليظل السؤال المفتوح.. هل هو ما إذا كانت هذه الدورة ستنجح في إدارة التوازن بين الذكرى والاقتصاد، بين الرسالة الإنسانية والرهانات التجارية؛ فنجاحها سيقاس بمدى قدرة الجونة على تحويل الرصيد الرمزي إلى نتائج ملموسة لصناع السينما والجمهور معاً، من دون أن تفقد شعاراتها الفنية بريقها وسط صخب سوق يبحث عن موطئ قدم.