الرئسيةصحةمجتمع

سطات: فاجعة في قلب الولادة تعيد أسئلة الثقة في المستشفيات العمومية

شهد المستشفى الإقليمي الحسن الثاني بسطات حادثًا مأساويًا جديدًا حين فقدت سيدة حامل جنينها داخل بطنها، في واقعة صادمة فجّرت موجة غضب واسعة وسط عائلاتها و أقاربها، ووصلت إلى حد تهديد أحد أفراد العائلة بالانتحار حرقًا احتجاجًا على ما وصفه بتأخر وتقصير خطير في التدخل الطبي.

هذه الصورة الدرامية لم تكن مجرد رد فعل انفعالي أمام مأساة شخصية، بل جسّدت حجم الإحباط العميق الذي صار يرافق علاقة المواطن بالمؤسسة الصحية العمومية، حيث يختلط الخوف باليأس، وتتحول قاعات الولادة من فضاء لاستقبال حياة جديدة إلى مسرح لفواجع متكررة.

غضب عائلي يتحول إلى صرخة مجتمعية

تجاوز المشهد الذي رافق وفاة الجنين حدود الحزن الطبيعي، إذ انفجرت العائلة في احتجاجات قوية داخل المستشفى وخارجه، محمّلة إدارة المؤسسة الطبية كامل المسؤولية، فتهديد أحد أقارب الحامل بإحراق نفسه لم يكن مجرد انفعال لحظي، بل رسالة قوية تُترجم فقدان الثقة في وعود الإصلاح وغياب قنوات فعالة للتواصل بين المواطن والدولة.. هذه الصرخة الفردية سرعان ما تحولت إلى قضية رأي عام محلية، وجدت صداها في النقاشات الاجتماعية والإعلامية، لتعيد فتح ملف جودة الرعاية الصحية العمومية، وما إذا كان المواطن البسيط يُعامل بالفعل كأولوية داخل سياسات الدولة الصحية.

لجنة تفتيش وزارية بين التحقيق وامتصاص الغضب

أمام حجم الغضب داخل أسوار المستشفى وبينما تشتعل بؤرات بركانية في مختلف مناطق المغرب جراء تدهور القاطع الصحي ، أوفدت وزارة الصحة لجنة مركزية إلى المستشفى قصد الوقوف على تفاصيل الحادث، والاستماع لكل الأطراف المعنية من أطباء وإدارة وأقارب، وجمع المعطيات التقنية والطبية قبل صياغة تقرير رسمي.. غير أن التجارب السابقة مع مثل هذه اللجان تدفع إلى التساؤل: هل الهدف هو الوصول إلى حقيقة واضحة ومحاسبة المسؤولين المباشرين وغير المباشرين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون محاولة لامتصاص الغضب وتهدئة الرأي العام؟ فالمواطن المغربي اعتاد على لجان التحقيق التي تبدأ بوعود وتوصيات وتنتهي غالبًا إلى رفوف الإدارات دون أثر ملموس أو محاسبة شفافة.

مستشفيات عمومية في مواجهة امتحان الثقة

حادثة سطات ليست حالة معزولة. بل هي حلقة جديدة في سلسلة من الفواجع التي شهدتها مؤسسات صحية مختلفة عبر جهات المملكة، حيث تتكرر قصص وفيات الأمهات أو الأجنة نتيجة التأخر في التدخل الطبي أو غياب التجهيزات الضرورية. ما يزيد الوضع خطورة هو أن هذه الأحداث لا تقع في مراكز صحية قروية هامشية فقط، بل في مستشفيات إقليمية و جهوية كما حدث في مستشفى الحسن التاني بأكدير و كان وراء خروج احتجاجات كبيرة شكلت نقطة الانطلاقة للإنتفاض ضد القطاع الصحي في ربوع المملكة.. المستشفيات الإقليمية أو الجهوية يُفترض أنها مجهزة لاستقبال الحالات المستعصية، لكن هذا التكرار يطرح علامات استفهام حول مدى نجاعة الاستثمارات المعلنة في قطاع الصحة، وحول قدرة النظام الصحي العمومي على تقديم خدمة آمنة وذات جودة للمواطنين.

فجوة بين الأرقام الرسمية والواقع اليومي

كثيرًا ما تتحدث الحكومة عن التقدم المحرز في خفض نسب وفيات الأمهات والرضع، وعن برامج التغطية الصحية الشاملة، وعن صفقات لتجهيز المستشفيات وتوفير الموارد البشرية.. غير أن هذه المؤشرات تبقى نسبية حين تُقاس بالواقع الميداني، فما جدوى الحديث عن انخفاض المعدلات الوطنية إذا كان قسم ولادة في مدينة متوسطة مثل سطات عاجزًا عن إنقاذ جنين؟ الفجوة الواضحة بين الخطاب الرسمي والتجربة اليومية للمواطن تجعل كل إنجاز رقمي باهتًا أمام صورة أم تغادر المستشفى فارغة اليدين.

اختلالات بنيوية تتجاوز حادثة فردية

فيما يكشف التحليل الموضوعي أن ما حدث في سطات ليس مجرد خطأ فردي لطبيب أو ممرضة، بل نتيجة اختلالات بنيوية تراكمت عبر عقود، ضعف البنية التحتية، نقص الأطر الطبية وشبه الطبية، غياب المعدات المتطورة في أقسام الإنعاش والولادة، إضافة إلى غياب نظام إحالة طبي فعّال يربط المستشفيات الإقليمية بالمراكز المرجعية الكبرى، كلها عوامل تجعل مثل هذه الكوارث أقرب إلى الحتمية منها إلى الاستثناء.. والنتيجة أن كل حالة طارئة تتحول إلى سباق مع الزمن بين حياة وموت، في غياب ضمانات حقيقية لإنقاذ الأرواح.

ما المطلوب للخروج من دوامة المآسي؟

التعاطي مع مثل هذه الفواجع لا يجب أن يتوقف عند حدود تشكيل لجان تفتيش أو إصدار بلاغات التعزية، المطلوب رؤية استراتيجية واضحة تجعل صحة المواطن أولوية قصوى لا تخضع لحسابات مالية أو بيروقراطية، فالإصلاح الحقيقي يبدأ من تعزيز الموارد البشرية عبر تكوين وتحفيز الكفاءات الطبية، وضمان تجهيز أقسام الولادة الإنعاش بأحدث الوسائل، وتفعيل آليات الرقابة والمساءلة التي تُعلن نتائجها للرأي العام بشكل شفاف، دون ذلك، ستبقى مثل هذه الأحداث تتكرر وتستنزف ثقة المجتمع في مؤسساته.

بين حياة ضائعة وثقة منهارة

وفاة جنين داخل بطن أمه داخل مؤسسة استشفائية ليست مجرد مأساة شخصية لعائلة بسطات، بل هي صورة مكثفة لهشاشة المنظومة الصحية العمومية بأكملها.. إنها رسالة قاسية بأن صحة المواطن ليست في مأمن، وأن الشعارات الرسمية لا تكفي لترميم جرح الثقة. ما لم تتحول هذه الفواجع إلى نقطة انطلاق لإصلاح عميق وشجاع، فإنها ستبقى مجرد عناوين حزينة تتكرر على الصفحات الأولى للصحف، بينما يستمر المواطن البسيط في دفع ثمن عجز الدولة عن ضمان أبسط حقوقه: الحق في الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى