
تحرير: جيهان مشكور
في خضم اضطراب القدرة الشرائية وتنامي الاحتقان الاجتماعي، يواصل سعر السردين الشعبي تحطيم القواعد الاقتصادية الاعتيادية، ليصبح فخًا غذائيًا تحاصر به الأسر ذات الدخل المحدود في المغرب. هذا السمك، الذي لقب بـ«سمك الفقراء» أصبح اليوم عبئًا يُضاف إلى فاتورة المعيشة، بعدما قفز سعره في الأيام الأخيرة إلى ما بين 25 و35 درهماً للكيلوغرام، أي بزيادة تتجاوز 120% مقارنة بفترات سابقة لم يكن ثمنه يتجاوز 5 إلى 15 درهماً، وحتى 20 درهم، وما فوق.
سمك شعبي يتحول إلى “حلم”
بالنسبة للمغاربة، لم يكن السردين مجرد وجبة غذائية، بل كان رمزاً للقدرة على توفير بروتين بأسعار معقولة في مواجهة غلاء اللحوم الحمراء والدواجن.. وقد ارتبط اسمه بالذاكرة الشعبية حتى صار “سمك الفقراء”، إذ يكفي القليل من الخبز وبعض الخضر ليشكل وجبة متوازنة لعائلة بأكملها.
لكن اليوم، يجد المواطن البسيط نفسه أمام مفارقة ساخرة: كيف لبلد يطل على واجهتين بحريتين تمتدان لأزيد من 3500 كيلومتر أن يعجز عن توفير سمك شعبي بسعر في المتناول؟
أزمة تتجاوز البحر
الارتفاع الحالي في أسعار السردين لا يمكن عزله عن موجة الغلاء التي طالت معظم المواد الأساسية في المغرب، فقد كشفت المندوبية السامية للتخطيط أن معدل التضخم بلغ حوالي 4.5% خلال السنة الماضية، مع ارتفاع ملحوظ في أسعار المواد الغذائية، ومع ذلك، يظل السردين حالة خاصة، لأنه يشكل بالنسبة لأكثر من 60% من الأسر المغربية البديل الأرخص للبروتين الحيواني.
في المقابل، يبرر بعض المهنيين هذا الارتفاع بعوامل متعددة كتراجع العرض بسبب تقلبات موسمية مرتبطة بمواسم الصيد وضعف الثروة السمكية، زد على ذلك ارتفاع تكاليف النقل والتخزين في ظل ارتفاع أسعار المحروقات، إضافة إلى اختلالات في قنوات التوزيع، لكن المواطن العادي يرى في كل هذه التبريرات مجرد أعذار، خاصة وأن المغرب يعد من بين أكبر مصدري السردين في العالم، حيث تشير تقارير رسمية إلى أن ما يزيد عن 65% من الإنتاج يوجه للتصدير نحو أوروبا وآسيا.
معاناة الأسر وغياب الحلول
يتكرر في أسواق المدن الكبرى كما في القرى، نفس المشهد: مواطنون يتوقفون أمام صناديق السردين، يتفحصون السعر، ثم يمضون في صمت. إحدى السيدات، وهي أم لثلاثة أطفال، تقول بنبرة يملؤها الغضب: “كنا نعتمد على السردين كوجبة أساسية، الآن أصبح ثمنه مثل ثمن الدجاج، وأحياناً أغلى. كيف يمكن لأسرة بدخل لا يتجاوز 3000 درهم أن تتحمل هذا الغلاء؟”.
اقرأ أيضا…
سمك الفقراء السردين يصل سعره ل25 درهم.. التامني توصل جنون أسعار السمك في رمضان للبرلمان
وراء هذه الجملة تختبئ مأساة اجتماعية أكبر: تضييق الخناق على القدرة الشرائية للفئات الهشة، ففي الوقت الذي يطالب فيه المواطنون الدولة بالتدخل لحماية “سمكهم الشعبي”، يبدو أن السياسات العمومية عاجزة عن مواجهة لوبيات الأسواق أو ضبط التصدير المفرط الذي يرهق السوق الداخلية.
البعد السياسي والاقتصادي للأزمة
لم تعد القضية مجرد ارتفاع في سعر مادة غذائية، بل صارت مؤشراً على عجز النموذج الاقتصادي عن التوفيق بين منطق السوق ومتطلبات العدالة الاجتماعية.. فبينما تجني شركات التصدير الملايين من عائدات العملة الصعبة، يظل المواطن المغربي البسيط أسير الارتفاعات التي تقصم ظهره يوماً بعد يوم.
كيف يمكن تفسير أن المغرب، وهو ثاني أكبر مصدر للسردين في العالم، لا يستطيع تأمين حاجيات سوقه المحلية بأسعار عادلة؟
إلى أين يسير “سمك الفقراء”؟
الواقع أن استمرار هذا الوضع يطرح سؤالاً وجودياً حول معنى السيادة الغذائية، فإذا كان السردين قد فقد هويته كغذاء شعبي، فما الذي تبقى للمواطن البسيط لمواجهة موجة الغلاء؟ البطاطس نفسها لم تعد في متناول الجميع، والخضر موسمية الأسعار، أما اللحوم فقد صارت حكراً على الطبقات الميسورة.
اليوم، السردين يذكرنا بأن أزمات الاقتصاد لا تُقاس فقط بمؤشرات النمو أو حجم الاستثمارات، بل أيضاً بقدرة المواطن على توفير وجبة بسيطة لأسرته، وحين يصبح “سمك الفقراء” رفاهية للأغنياء، فهذا يعني أن الأزمة أعمق بكثير من مجرد تقلب في أسعار السوق، إنها أزمة ثقة بين الدولة ومواطنيها، بين البحر الذي يغني خزائن التصدير والموائد الفارغة في بيوت المغاربة.
اقرأ أيضا…
عندما يقود السردين مواطنيين عبروا عن استيائهم من أسعاره إلى السجن!