
جيل جديد يسائل الماضي: او حين يلتقي الاقتصاد بالحلم الاجتماعي
في أمسية فكرية افتراضية جمعت بين شباب حركة “الجيل زد المغربي” والدكتور “نجيب أقصبي“، بدا النقاش مختلفًا عن أي حوار أكاديمي تقليدي.. لم يكن لقاءً بين أستاذ وطلبة، بل مواجهة فكرية بين جيلين: جيل خَبِرَ التحولات الاقتصادية منذ الاستقلال، وجيل يعيش آثارها اليوم، بين أزمات التعليم، البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية.
فمنذ اللحظة الأولى، كان واضحًا أن الحوار لا يدور حول الاقتصاد فحسب، بل حول سؤال أعمق: “لماذا لم يتحقق وعد التنمية في المغرب رغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال؟”
نجيب أقصبي: الاقتصاد ليس أرقامًا… بل مرآة المجتمع
يرى الدكتور نجيب أقصبي أن فهم الاقتصاد المغربي لا يمكن أن يتم عبر الأرقام وحدها، بل من خلال تحليل “الدينامية الاجتماعية” التي يعيشها المواطن يوميًا.. في نظره، الاقتصاد المغربي بُني على اختيارات غير متوازنة، تركزت حول قطاعات محددة كالفلاحة الكبرى أو البنية التحتية، في حين ظلت القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والتشغيل في الهامش.
ويشير أقصبي إلى أن ما نسميه “أزمة اقتصادية” هو في الأصل “أزمة تخطيط ورؤية”، قائلاً إن “الاقتصاد المغربي لم يكن يومًا مُخططًا له بعمق أو بمنظور استراتيجي طويل الأمد، بل ظل أسير قرارات ظرفية تتأثر بالمصالح الضيقة أكثر من المصلحة العامة.”
ويضيف أن الدولة، عبر مختلف الحكومات، لم تستطع الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى منطق بناء النموذج الاقتصادي الشامل الذي يضمن العدالة في توزيع الثروة والفرص.
جيل يحتج من أجل الكرامة… لا من أجل الامتياز
لم يخف أقصبي إعجابه بوعي الجيل الجديد، مؤكدًا أن “جيل زد يمثل طاقة تاريخية جديدة” تدرك أن مشكلات المغرب ليست تقنية فحسب، بل سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى، ويرى أن الشباب الذين خرجوا في احتجاجات أو عبروا عن سخطهم في الفضاءات الرقمية ليسوا فوضويين كما يُصوَّرون أحيانًا، بل هم تعبير صادق عن جيل أدرك أن الوعود المتكررة لم تعد تكفي، وأن الإصلاحات الشكلية لم تَمس جوهر الأزمة.
وأوضح أقصبي أن هذه الحركات، من 20 فبراير إلى التحركات الرقمية والطلابية الأخيرة، ليست سوى استمرارية لمسار تاريخي من التعبير الشعبي، وأنها جزء من “يقين التاريخ”، على حد تعبيره، الذي يجعل كل جيل يرفع صوته مطالبًا بما لم يتحقق من قبل: التعليم، الصحة، الشغل، والعدالة الاجتماعية.
من الاستقلال إلى 2025… إصلاحات تتكرر دون أثر
في قراءته لتاريخ المغرب الاقتصادي، أشار أقصبي إلى أن “الدولة المغربية كررت نفس السيناريو منذ الاستقلال” : اعتراف محدود بالأزمة، ثم إصلاحات جزئية قصيرة الأمد، دون معالجة الأسباب الجذرية..
وقال بأسف: “منذ عام 1965 إلى اليوم، ونحن نعيد نفس الخطاب حول إصلاح التعليم، ومحاربة الغش، وتوفير الشغل، وكأننا ندور في حلقة مفرغة.”
ويُرجع أقصبي هذا الجمود إلى غياب الإرادة السياسية الحقيقية، وضعف آليات المساءلة، وتركّز القرار الاقتصادي في يد فئات محدودة، فالإصلاحات في نظره لم تتجه نحو بناء نموذج ديمقراطي يربط بين “الاقتصاد والعدالة” ، بل ظلت رهينة منطق التقنوقراط ومقاربة “الأرقام بدل الإنسان”.
اقتصاد بلا عدالة… دولة بلا ثقة
أكد أقصبي أن الاقتصاد المغربي يعيش أزمة ثقة مزدوجة: ثقة المواطن في الدولة، وثقة الدولة في المواطن.. فحين يُطلب من المواطن أداء الضرائب والمساهمة في التنمية دون أن يرى انعكاسًا لذلك في حياته اليومية، يضعف الانتماء الاقتصادي وتترسخ مشاعر الإقصاء، وقال في هذا الصدد: “ليس من المنطقي أن يؤدي المواطن ضرائب مرتفعة بينما يعيش ثلث السكان على حافة الفقر.. العدالة الجبائية غائبة، والتوزيع غير متكافئ للثروة يولد شعورًا بالغبن، خاصة بين الشباب الذين يشعرون أن وطنهم لم يمنحهم فرصة حقيقية.”
ويعتبر أن إعادة بناء الثقة تمر عبر “إصلاح جذري للنموذج التنموي” ، يبدأ بالتعليم والصحة باعتبارهما أساس رأس المال البشري، لا كقطاعات إنفاق اجتماعي ثانوي.
رسالة أقصبي إلى الجيل زد: التغيير لا يُمنح… بل يُنتزع
في ختام هذا الجزء من الحوار، وجه الدكتور أقصبي رسالة مباشرة إلى شباب “الجيل زد” قائلاً:
“أنتم لستم جيلاً غاضبًا، بل جيلاً واعيًا. مطالبكم ليست جديدة، لكنها حقيقية ومتجذرة في تاريخ المغرب.. التعليم، الصحة، العمل، مكافحة الفساد… هي نفس المطالب التي رفعها آباؤكم وأجدادكم. الفرق هو أنكم اليوم تمتلكون أدوات جديدة، وعياً جديداً، وإرادة أقوى. فلا تكتفوا بالمطالبة، بل شاركوا في صياغة المستقبل.”
يرى أقصبي أن التحول لا يأتي من الدولة وحدها، بل من “تفاعل المجتمع بكافة فئاته” . فالمواطن الذي يدرك حقوقه ويشارك في القرار هو أساس أي تنمية مستدامة، لذلك، فحوار الجيل الجديد مع العقول الاقتصادية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة تاريخية لإعادة بناء الثقة، واستعادة المعنى الحقيقي للمواطنة.
نحو وعي اقتصادي جديد
يشكل هذا اللقاء بين نجيب أقصبي وحركة الجيل زد “بداية جسر حقيقي بين الفكر الاقتصادي والرؤية الشبابية الجديدة،
لقد كشف الحوار عن عمق الأزمة، لكنه أيضًا أظهر أن الأمل لم يمت. فحين يتحدث خبير مخضرم مع جيل لم يعد يخاف من السؤال، تبدأ رحلة جديدة نحو وعي جمعي قادر على صياغة مغرب أكثر عدلاً وكرامة.
وهذه ليست سوى “الحلقة الأولى” من سلسلة “قراءة في رؤية نجيب أقصبي”، التي ستغوص في تفاصيل رؤيته النقدية للاقتصاد المغربي، ونفكك بالتحليل مواقفه من قضايا التعليم، والضرائب، والنموذج التنموي، والعدالة الاجتماعية.




