الرئسيةدابا tvذاكرةسياسةشواهد على التاريخ

المهدي بن بركة..”الظل” الذي لم يغادر المغرب+فيديو

ستة عقود مضت، ولا يزال اسم المهدي بن بركة يثير الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات. سياسي يساري، مفكر استراتيجي، ومعارض شرس للنظام المغربي بعد الاستقلال، انتهت قصته في إحدى زوايا باريس، يوم 29 أكتوبر 1965، حين اختفى في وضح النهار. لم يُعثر على جثته قط، لكن أثره ظلّ حاضراً، كجرح مفتوح في ذاكرة الدولة والمجتمع على حدّ سواء.

من الرياضيات إلى السياسة

لم يكن بن بركة من صنف السياسيين التقليديين. وُلد في الرباط سنة 1920، وتفوّق دراسياً حتى أصبح أول مغربي يدرّس مادة الرياضيات العليا في ثانوية مولاي يوسف، بعد تخرّجه من فرنسا. كان العقل التحليلي والمنهج العلمي سلاحه في فهم السياسة، وهو ما جعله مختلفاً عن جيله.

انخرط مبكراً في الحركة الوطنية، وكان من الموقّعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال عام 1944، ومن أقرب المقرّبين إلى الملك محمد الخامس. لكن علاقة الثقة تلك لم تصمد طويلاً أمام التحولات التي عرفها المغرب بعد الاستقلال سنة 1956.

من رفيق القصر إلى زعيم المعارضة

بعد استقلال المغرب، ساهم بن بركة في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، فترأس أول مجلس وطني استشاري، وساهم في وضع الخطوط العريضة لأول دستور. لكنه سرعان ما أدرك أن الاستقلال السياسي لم يتحقق كاملاً، وأن السلطة الحقيقية انتقلت من الاستعمار الفرنسي إلى نخبة جديدة تسيطر على الدولة.

في عام 1959، قاد انشقاقاً تاريخياً عن حزب الاستقلال، وأسّس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي تحوّل إلى أكبر قوة معارضة في البلاد.

دعا إلى العدالة الاجتماعية، فصل الثروة عن السلطة، ومحاربة الفساد الإداري، ما جعله هدفاً مباشراً للأجهزة الأمنية والسياسية في الداخل.

السلطة رأت فيه خطراً على استقرار النظام، بينما رآه الشباب رمزاً للجرأة الفكرية والصدق السياسي.

المنفى.. وولادة زعيم أممي

بعد تصاعد التوتر مع القصر، اضطر بن بركة إلى مغادرة المغرب سنة 1963، بعد صدور مذكرة توقيف بحقه إثر اتهامه بالتآمر على أمن الدولة. من منفاه في الجزائر، القاهرة، وهافانا، أعاد بناء مكانته السياسية، لكن هذه المرة على المستوى الدولي.

تحوّل إلى أحد أبرز وجوه حركة العالم الثالث، وشارك في الإعداد لمؤتمر القارات الثلاث الذي كان سيُعقد في هافانا عام 1966، بمشاركة رموز كـ جمال عبد الناصر، تشي غيفارا، وأحمد بن بلة.


في تلك المرحلة، كان بن بركة يُعتبر “المفكر الاستراتيجي للثورات المناهضة للإمبريالية”، وصوت الجنوب في مواجهة الهيمنة الغربية.

عملية باريس: اختطاف في وضح النهار

في 29 أكتوبر 1965، تلقى بن بركة اتصالاً من شخص يُدعى “جورج فيغون” دعاه لاجتماع في مقهى “ليب” الباريسي لمناقشة فيلم وثائقي حول العالم الثالث. دخل المكان ولم يخرج منه أبداً.

التحقيقات الفرنسية كشفت تورّط عناصر من الشرطة الفرنسية في عملية استدراجه، كما أشارت إلى تعاون بين أجهزة استخبارات مغربية وفرنسية وربما إسرائيلية (الموساد).
أُوقف عدد من الضباط، أبرزهم الجنرال أوفقير والعقيد الدليمي، لكن القضية أُغلقت دون نتيجة نهائية.

حتى اليوم، لا يُعرف مصير الجثمان، ولا الجهة التي أمرت بعملية التصفية، ما جعل ملف بن بركة من أكثر القضايا غموضاً في التاريخ السياسي الحديث.

ما وراء الجريمة: الصراع بين الدولة والمشروع الاجتماعي

اختفاء بن بركة لم يكن حادثاً معزولاً، بل تتويجاً لصراعٍ أعمق بين مشروع الدولة السلطوية ومشروع العدالة الاجتماعية الذي حمله الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.


كان الرجل يسعى إلى بناء مغربٍ ديمقراطي يُدار بالمؤسسات لا بالأفراد، وهو ما لم يكن مقبولاً في سياق سياسي يفضّل الولاء على الكفاءة.

السلطة رأت فيه خصماً يهدد استقرار البلاد، بينما رآه المجتمع الدولي رمزاً لعالمٍ جديد يخرج من التبعية.

وهكذا، تحوّل صراع داخلي إلى قضية دولية، جمعت باريس والرباط وواشنطن في مثلثٍ غامض من المصالح والأسرار.


أثره على السياسة المغربية

اختفاؤه خلّف فراغاً كبيراً في المشهد السياسي المغربي.
من بعده، ضعفت المعارضة، وتراجع اليسار أمام آلة الدولة. لكن إرثه الفكري ظلّ قائماً في الأجيال التي حملت شعلة الإصلاح والنزاهة.
في الثمانينيات، حين بدأ الحديث عن “الإنصاف والمصالحة”، كان اسمه يعود دائماً كمرجع أخلاقي ونقطة انطلاق لفهم علاقة الدولة بالمجتمع.

ملف مفتوح على التاريخ

التحقيقات القضائية في فرنسا لا تزال مفتوحة  إلى اليوم، لكن الحقيقة السياسية باتت أوضح من أي وقت مضى:

اختُطف بن بركة لأنه كان سابقاً لعصره، ولأن فكر الدولة حينها لم يكن يتسع لرجل يؤمن بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالعقل والعمل والتنظيم.

ورغم مرور السنين، يبقى سؤاله معلقاً في وجه التاريخ:


هل يمكن لدولةٍ أن تتصالح مع ماضيها دون أن تواجه الحقيقة كاملة؟

الجواب ما زال معلقاً، كما بقيت صورة المهدي بن بركة تلاحق ضمائر المغاربة — رمزاً للحلم المغتال والديمقراطية المؤجلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى