

بقلم بثينة المكودي
في مشهد مؤلم يعكس حدود العدالة حين تصطدم بالهشاشة، قضت المحكمة الابتدائية بالرباط، قبل أيام، بسجن أمّ شابة تعيش في الشارع وتعاني من اضطراب عقلي ثمانية أشهر نافذة، بعد أن وُجّهت إليها تهم ثقيلة: الإساءة إلى النظام الملكي والمشاركة في تجمهر غير مرخّص.
القصة بدأت حين مدّ أحد المواقع الإلكترونية ميكروفونه لهذه المواطنة الفقيرة، فعبّرت بكلماتٍ غير متّزنة عمّا يجول في ذهنها، لتجد نفسها بعدها وراء القضبان تقول للقاضي: “راني ما شرباش الدوا ديالي… يعطيك مصيبة” عبارة تختصر مأساة مرض لم يجد دواءه سوى في السجن.
العدالة حين تنسى شرطها الإنساني
طالب دفاعها، حسب روايات من داخل القاعة، بإجراء خبرة طبية للتأكد من أهليتها الجنائية، لكن الطلب لم يجد طريقه إلى التنفيذ.
كما ناشد المحامون الإفراج عنها مؤقتاً لتعود إلى طفلتيها اللتين وُزّعتا بين أسرتين لا يُعرف مصيرهما.
ورغم كلّ المؤشرات على اضطرابها النفسي، أصرّ الحكم على معاقبتها وكأنها مجرمة بكامل الوعي والإدراك، لا امرأة ضحية منظومة فشلت في حماية الفقر والمرض معاً.
القاعة – كما يصفها شهود عيان – كانت مشحونة بالصمت والذهول، إذ بدا للجميع أن المحاكمة ليست امتحاناً لجُنحة، بل امتحاناً للضمير.
رشيد البلغيتي: حين تتحول العدالة إلى مرآة للألم
علق الصحافي والكاتب رشيد البلغيتي على هذه الواقعة في تدوينة له، حيث اعتبر فيها أن ما جرى “ليس ملفاً قضائياً بقدر ما هو مرآة لمجتمع يحاكم ألمه بدل أن يُنصت إليه”.
في تحليله، يربط البلغيتي بين هذه القضية وسلسلة من المحاكمات التي طالت شباباً من “جيل Z” رفعوا شعارات تطالب بالحق في الصحة والتعليم، ليجدوا أنفسهم بدورهم داخل السجون.
وكتب البلغيتي:
“كل من كان في القاعة يعرف أن المحاكمة كانت ورطة، وأنها لم تكن امتحاناً لجنحة بل امتحاناً للضمير. لم نرَ الدولة وهي تحاكم شخصاً، بل رأيناها تحاكم هشاشتها، عجزها عن الإصغاء، وفشلها في حماية من سقط من قطار المجتمع.”
ويمضي البلغيتي أبعد من ذلك ليصف العدالة بـ«البيروقراطية التي تضع الألم في خانة الجريمة»، مؤكداً أن غياب الحس الإنساني من قلب القضاء يحوّل القانون إلى أداة قمع رمزي للضعفاء.
بين القانون والواقع: من يملك تعريف الجريمة؟
تثير هذه القضية سؤالاً جوهريا من نُحاكم حين نحاكم المريض والمهمّش؟
في فلسفة العدالة الجنائية، تُستثنى فئة المرضى النفسيين من العقوبة الزجرية، إذ يُفترض أن تُحال قضاياهم على مسار علاجي أو تأهيلي. لكن في هذه الحالة، تحوّلت النصوص إلى جدار صلب أمام الإنسانية.
لقد استُخدم القانون، لا لتقويم السلوك، بل لتكريس العقاب. في المقابل، لم يُستدعَ علم النفس ولا العمل الاجتماعي، وكأنّ الدولة ترفض أن ترى هشاشتها في مرآة امرأة فقدت عقلها قبل أن تفقد حريتها.
القمصان الممنوعة… وشباب يُحاكمون على الحلم
في اليوم نفسه، أصدرت المحكمة نفسها أحكاماً بالسجن على ثلاثة شبّان اثنان لأنهما ارتديا قمصانا كتب عليها «الحق في الصحة والتعليم»، وثالث موظف مطبعة حديث العهد بالعمل بشهر نافذ لأنه طبع تلك العبارات.
المشهد بدا، كما قال البلغيتي، “أورويلياً” بامتياز، إذ تتقاطع فيه المحاضر مع المحاذر، في بلد يُعاقَب فيه التعبير لا العنف، وتُصادر فيه الرموز قبل أن تُفهم الرسائل.
العدالة كاختبار للضمير الجمعي
القضية لا تختبر فقط القضاء، بل الضمير الجمعي لمجتمع يشيح بوجهه عن أمهات مشرّدات وأطفال بلا حماية.
كيف يمكن لمنظومة العدالة أن تُقيم توازناً بين حماية “النظام” وحماية “الإنسان”؟
هل ما زال لدينا متسع لأن نُفرّق بين الجريمة والصراخ طلباً للنجدة؟
إنها ليست فقط قصة امرأة منسية، بل مرآة لبلدٍ تتزايد فيه الهوة بين القانون والرحمة، وبين العقاب والعدالة.
جدير بالذكر أت ما وقع في الرباط لا يُختزل في حكمٍ بالسجن، بل في سؤالٍ يطاردنا جميعا،فهل ما زال للعدالة وجه إنساني حين تُغلق الأبواب على امرأة لم تشرب دواءها؟
البلغيتي كتبها بوضوح
“حين تحاكم الدولة الألم، تتحول العدالة إلى جهاز إداري لتدبير الخضوع.”
وفي ذلك، تتجاوز القضية شخصها لتُصبح درساً مؤلماً في معنى العدالة حين تفقد ذاكرتها الإنسانية.




