اقتصادالرئسيةسياسة

البنك الدولي ينوه بإصلاحات المغرب..لكن أين النساء من سوق العمل؟

في الوقت الذي تحتفي فيه التقارير الدولية بتقدّم الإطار القانوني الداعم لتمكين المرأة، تكشف الأرقام أن هذا التقدّم ما زال حبيس الأوراق، وأن الفجوة بين المساواة القانونية والمساواة الفعلية تتسع بصمت.

أعاد تقرير البنك الدولي الأخير حول “المستجدات الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان” ، الصادر في أكتوبر 2025، تسليط الضوء على المغرب باعتباره حالة استثنائية داخل المنطقة، سواء على مستوى الأداء الاقتصادي أو في ما يتعلق بالإصلاحات القانونية المرتبطة بتمكين المرأة ومشاركتها في سوق العمل، ورغم ما حمله التقرير من إشادة نسبية بالتقدم المغربي، فإنه كشف أيضاً عن تعقيدات عميقة تتعلق ببطء التحول الاجتماعي والفجوة المستمرة بين النصوص القانونية والممارسات الواقعية.

إصلاحات قانونية تضع المغرب في موقع متقدم إقليمياً

يضع تقرير البنك الدولي مؤشر “المرأة وأنشطة الأعمال والقانون” في صلب تحليله، باعتباره مقياساً يعكس مدى المساواة القانونية بين الجنسين في ثمانية مجالات تشمل التنقل، والتمكين في العمل، والأجور، والزواج، والوالدية، وريادة الأعمال، والأصول، والمعاشات التقاعدية، وفي هذا الإطار، برز المغرب بوصفه استثناءً إيجابياً مقارنة ببقية دول المنطقة التي لا تزال تسجل مستويات أدنى من المعدل المتوقع وفق مستوى دخلها القومي.

يشير التقرير إلى أن المغرب أحرز تقدماً ملحوظاً في تحسين الإطار التشريعي الداعم لمشاركة النساء في الحياة الاقتصادية، وهو ما يُترجم في تعديلات قانونية متراكمة خلال العقدين الأخيرين، مثل إدخال إصلاحات على “مدونة الأسرة” وتعديل “قانون الشغل” بما يمنح النساء حماية أوسع في أماكن العمل، إضافة إلى تشريعات مكافحة العنف والتحرش.. غير أن التقرير ينبه إلى أن هذا التحسن القانوني لم ينعكس بعد بشكل كافٍ على أرض الواقع، حيث ما زالت الفجوة بين المساواة القانونية والمساواة الفعلية قائمة.

المشاركة النسائية بين الطموح القانوني والعوائق الاجتماعية

رغم التقدم المسجل في المؤشرات القانونية، يُظهر التقرير تراجعاً لافتاً في معدل مشاركة النساء في سوق العمل بالمغرب، من %29 عام 2000 إلى نحو %20 فقط.. وفق أحدث الإحصاءات المتاحة، ويعزو البنك الدولي هذا الانخفاض إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، تشمل “الأعراف الاجتماعية الراسخة، ونقص خدمات رعاية الأطفال، وضعف الحماية من التحرش في أماكن العمل”.

ويورد التقرير نتائج مسحية مهمة تشير إلى تغير تدريجي في المواقف الاجتماعية تجاه عمل النساء، حيث تراجعت نسبة الشباب الذين يعتقدون أن الرجال أحق بالوظائف عند ندرة فرص العمل، ومع ذلك، يوضح البنك الدولي أن هذا التحول ما زال بطيئاً ومتفاوتاً بين المناطق الحضرية والريفية، وبين الفئات الاجتماعية المختلفة، ما يجعل “التحول الثقافي” أحد أكبر التحديات أمام تحقيق المساواة الاقتصادية الفعلية.

الإطار القانوني بين النص والتطبيق

يتوقف التقرير عند نقطة جوهرية مفادها أن “الإصلاح القانوني وحده لا يكفي” لتحسين واقع النساء في سوق العمل.. فالتشريعات، مهما كانت طموحة، تفقد فعاليتها إذا لم تُرافقها آليات تنفيذ قوية ومؤسسات قادرة على ضمان التطبيق الفعلي، ويؤكد البنك الدولي أن المغرب، رغم تفوقه النسبي في المؤشر القانوني، لا يزال يواجه صعوبات في تحويل الإصلاحات إلى نتائج ملموسة، بسبب “ضعف مراقبة تطبيق القوانين، وبطء المساطر القضائية، واستمرار التمييز في بعض الممارسات المهنية” .

كما يشير التقرير إلى أن “غياب آليات فعالة لمكافحة التحرش والعنف في أماكن العمل” ، إضافة إلى “النقص في مؤسسات رعاية الأطفال” ، يمثلان عائقين رئيسيين أمام مشاركة النساء الاقتصادية، ووفقاً لبيانات التقرير، فإن أكثر من نصف الرجال في المنطقة يعتبرون نقص خدمات رعاية الأطفال من أهم الأسباب التي تعيق عمل النساء، ما يعكس بداية وعي مجتمعي بأهمية توزيع الأدوار الأسرية على نحو أكثر توازناً.

المغرب في قلب التحولات الاقتصادية الإقليمية

من الناحية الاقتصادية، يرسم تقرير البنك الدولي صورة متفائلة نسبياً لمستقبل المغرب في عام 2025، مع توقعات برفع معدل النمو إلى “4.4 في المائة” ، وهي نسبة تفوق المتوسط الإقليمي.. ويُرجع التقرير هذه التوقعات إلى “تحسن الإنتاج الزراعي بعد سنوات من الجفاف” ، و”انتعاش قطاع السياحة” بفضل الاستقرار الأمني وتزايد الاستثمارات في البنية التحتية السياحية، إلى جانب “الدينامية الاقتصادية المصاحبة للتحضيرات لكأس الأمم الإفريقية 2025” ومشاريع “التهيئة المرتبطة بكأس العالم 2030” التي ستنظمها المملكة بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال.

ويعتبر التقرير أن هذه الأحداث الكبرى تشكل “فرصة استراتيجية لتعزيز النمو” وجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في قطاعات النقل، والبناء، والضيافة، والاتصالات، لكنها، في المقابل، تفرض على المغرب تحدياً موازياً يتمثل في ضمان “عدالة توزيع ثمار النمو” وتجنب أن تظل المكاسب محصورة في فئات محدودة من المستثمرين أو المراكز الحضرية الكبرى.

التحديات الإقليمية والرهانات المستقبلية

يضع التقرير حالة المغرب ضمن سياق إقليمي معقد يشهد “تباطؤاً في النمو العالمي، وتقلبات حادة في أسعار السلع الأساسية، واستمراراً للنزاعات الجيوسياسية” في عدد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا..

بحسب البنك الدولي فإن هذه العوامل، تفرض على دول المنطقة ضرورة تنويع اقتصاداتها وتبني سياسات اجتماعية أكثر شمولاً، لاسيما في مجالات” تشغيل الشباب وتمكين النساء”.

ويشير التقرير إلى أن المغرب يمتلك، بالمقارنة مع محيطه الإقليمي، “مزيجاً فريداً من الاستقرار السياسي والإصلاحات القانونية والفرص الاقتصادية” ، لكن استدامة هذا النمو تظل رهينة بقدرة الدولة على تعزيز الشفافية، وتحسين مناخ الأعمال، وتوسيع قاعدة المشاركة الاقتصادية لتشمل النساء والشباب والفئات الهشة.

نحو رؤية شاملة لتمكين المرأة والتنمية

في خلاصة تحليله، يؤكد البنك الدولي أن” تحقيق المساواة بين الجنسين في المنطقة لا يمكن اختزاله في التشريعات وحدها” ، بل يتطلب رؤية شمولية تمتد إلى التعليم، والسياسات الأسرية، والإعلام، وسوق العمل.. وفي حالة المغرب، يرى التقرير أن “الفرصة سانحة لبناء نموذج إقليمي في الموازنة بين الإصلاح القانوني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية”، شرط أن تُترجم الإصلاحات إلى ممارسات ملموسة تُحدث تغييراً حقيقياً في واقع النساء.

ويبدو أن المملكة، وفق التقرير، تقف اليوم أمام “منعطف حاسم” : فإما أن تستثمر هذا الزخم الاقتصادي والقانوني في تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة الفعلية، وإما أن تظل رهينة الفجوة التقليدية بين النصوص القانونية والواقع المعيشي.

وبين هذين الخيارين، يظل نجاح التجربة المغربية مرهوناً بمدى قدرتها على جعل “المرأة شريكاً فعلياً في التنمية” لا مجرد رقم في المؤشرات الدولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى