
فضيحة العمران الشرق..61 مليار سنتيم تتبخر تحت شعار التنمية!
في بلد أنهكته شعارات الإصلاح وملاحقة الفساد، تفجّرت من جديد قضية تهز الثقة في مؤسسات التدبير العمومي، بعدما أصدرت محكمة الاستئناف بفاس أحكامًا ثقيلة في واحدة من أكبر ملفات نهب المال العام بالمغرب. شركة “العمران جهة الشرق”، التي رُفع شعارها يومًا "التعمير من أجل التنمية"، تحوّلت إلى عنوان لـ"التعمير من أجل الثراء السريع"، بعد اختلاسٍ تجاوز 61 مليار سنتيم، كشف عن شبكة متشابكة من المصالح والرشاوى والتواطؤات التي امتدت إلى قلب الإدارة.
في بلدٍ أنهكته خطابات الإصلاح ومحاربة الفساد، تعود محكمة الاستئناف بفاس لتكشف جزءًا من الحقيقة التي لطالما أُخفيت تحت بساط “المشاريع التنموية”، حيث أصدرت غرفة الجنايات الابتدائية المكلفة بالجرائم المالية مساء الثلاثاء 11 نونبر، أحكامًا اعتبرت لذى البعض ثقيلة في واحدة من أكبر قضايا نهب المال العام بالمغرب، بطلها شركة “العمران جهة الشرق” التي تحوّل شعارها من “التعمير من أجل التنمية” إلى “التعمير من أجل الثراء السريع”.
يدك ان القضية هزّت الرأي العام َحال انكشافها حيث لم تكن مجرد سوء تدبير إداري أو خطأ محاسباتي، بل كانت نموذجًا صارخًا لثقافة الإفلات من العقاب التي تغلغلت في مؤسسات الدولة.. فالمبلغ المختلس الذي تجاوز 61 مليار سنتيم، لم يكن ليختفي في الهواء لولا شبكة محكمة من التواطؤ والرشوة وتبادل المصالح، جمعت مسؤولين ومقاولين ومستخدمين حول مائدة واحدة: مائدة المال العام.
أحكام ثقيلة… لكن هل هي كافية؟
قضت المحكمة بإدانة المدير العام السابق للشركة بـثماني سنوات سجنًا نافذًا، بعد إدانته بتهم اختلاس وتبديد أموال عمومية واستغلال النفوذ.. كما نال مستخدم في قسم الإعلاميات ومقاول خمس سنوات سجنًا لكل منهما، فيما حُكم على المدير المالي بثلاث سنوات، وعلى مستخدمين ومسير شركة بسنة واحدة لكل منهم، أما خمسة آخرون فقد نالوا البراءة، في فصلٍ قضائي لا يخلو من التساؤلات.
لكن السؤال الحقيقي ليس في سنوات السجن، بل في “كمّ الأضرار التي خلّفها هذا الفساد” على مشاريع السكن الاجتماعي والبنيات التحتية التي كان يفترض أن تخدم آلاف الأسر بجهة الشرق، و كيف يمكن لبلد يعاني أزمة سكن خانقة وبطالة متفشية أن يتقبل ضياع هذا المبلغ الهائل دون أن تتحرك مؤسسات الرقابة والمحاسبة قبل أن تقع الكارثة؟
مشاريع “افتراضية” وواقع مرير
تفجرت القضية إثر عملية افتحاص داخلي وشكاية من الشركة نفسها، كشفت عن وجود مشاريع “افتراضية” تم تكليفها وهميًا وتلاعب في المستخلصات المالية لمشاريع كبرى لم يُنجز منها شيء سوى الفواتير، و هكذا تحولت أوراش التنمية إلى أوراق على المكاتب، و”مدينة الغد” إلى حلم مؤجل، فيما كانت الملايير تُحوّل بخفة من حساب إلى آخر.
و بحسب معطيات رسمية صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، فإن شركات عمومية مشابهة سجلت خلال السنوات الأخيرة اختلالات مالية بلغت قيمتها أكثر من 41 مليار درهم، ما يبرز أن “العمران” ليست سوى رأس جبل الجليد في منظومة فساد مؤسساتي عميق، تُدار فيه الأموال كما لو كانت ملكًا خاصًا.
اقتصاد ينزف وسياسة تصمت
لا يمكن فصل الملف الملف لا عن البعد الاقتصادي والسياسي لما يعيشه المغرب اليوم.. ففي وقت تُشدد فيه الحكومة على ضرورة “ترشيد النفقات” و”تحسين مناخ الأعمال”، تتكاثر قضايا نهب المال العام كالفطر، لتبتلع ما يُمكن أن يموّل مستشفيات ومدارس وبنى تحتية في مناطق منكوبة بالعطش والفقر، بينما يكتفي المسؤولون بتصريحات موسمية عن “عدم التسامح مع الفساد”، دون أي إصلاح حقيقي يضمن الشفافية والمساءلة.
والأدهى أن هذه القضايا تمر غالبًا دون أن تصل إلى المسؤولين الكبار، وكأن منظومة الفساد في المغرب تعمل وفق منطق *الحيتان الصغيرة تُصطاد، أما الكبيرة فتبقى في الأعماق”.
حين يصبح الفساد مؤسسة قائمة الذات
القضية ليست مجرد محاكمة لأشخاص، بل محاكمة لعقلية سائدة في تسيير الشأن العام.. فـ”العمران” ليست سوى تجسيد لواقعٍ تُدار فيه الشركات العمومية كإقطاعيات صغيرة، يتقاسم فيها المسؤولون النفوذ والعقود والمصالح، وإذا كانت المحكمة قد نطقت بالأحكام، فإن الشعب ما زال ينتظر حكم التاريخ على منظومة كاملة سمحت بأن تتحول التنمية إلى تجارة، والمال العام إلى غنيمة.
وفي النهاية، تبقى الحصيلة مؤلمة: 61 مليار سنتيم اختفت، ومشاريع لم تُنجز، وأحلام مواطنين ضاعت بين دهاليز البيروقراطية وجشع المسؤولين، أما الوطن، فظلّ يدفع الثمن من جيب الفقراء، في زمنٍ صار فيه الفساد سياسة، والمحاسبة استثناءً، والعدالة… انتظارًا بلا نهاية..




