
تشعل الضوء من جديد..مهرجان القاهرة 2025 يبدأ بالدهشة والوفاء
افتتحت الدورة 46 من “مهرجان القاهرة السينمائي الدولي” للعام 2025 و الممتدة بين من 12 و 21 نونبر الجاري ، بحفلٍ مهيب امتزجت فيه مشاعر الفخر بالحزن، والاحتفاء بالفن بالوفاء لروّاده الذين غيّبهم الموت، لكنّهم ظلّوا حاضرِين بأعمالهم التي شكّلت ذاكرة السينما المصرية والعربية.
غصّت القاعة الكبرى بدار الأوبرا المصرية بوجوه النجوم والمبدعين من أجيال متعددة، في مشهد أعاد إلى الأذهان صورة مصر كأيقونة للثقافة العربية وواحدة من قلاع السينما في العالم.
تكريم الراحلين.. حين تخلّد الصورة من رحلوا
بدأ الحفل بلحظة مؤثرة، فقد خيّم الصمت في القاعة قبل أن تُعرض على الشاشة الكبيرة صور وأسماء الفنانين وصنّاع السينما الذين رحلوا عن عالمنا في 2025.. ظهرت وجوههم واحدًا تلو الآخر: “مدير التصوير تيمور تيمور، سميحة أيوب، لطفي لبيب، نبيل الحلفاوي، سليمان عيد، سامح عبد العزيز، وأحمد عبد الله”..
كانت لحظة تتجاوز التكريم التقليدي، فكلّ اسم من هذه الأسماء ارتبط بمرحلة من تاريخ الفن المصري، وأثر في وجدان الجمهور عبر أدوار خالدة أو أعمال شكلت تحولات نوعية في المشهد السينمائي، وبين دموع البعض وتصفيق الحاضرين، بدا واضحًا أن مهرجان القاهرة لا يكرّم الموتى بقدر ما يُعيدهم إلى الحياة عبر الذاكرة الجماعية للفن.
حسين فهمي.. صوت القاهرة الثقافي ورسالة مصر الإنسانية
وفي كلمة حملت أبعادًا إنسانية وسياسية وثقافية، تحدث الفنان حسين فهمي، رئيس المهرجان، بروح الأب الراعي لتاريخ الفن وذاكرته، مؤكدًا أن “مصر لم تتخل يومًا عن دورها الإنساني”، في إشارة واضحة إلى مواقفها الثابتة تجاه القضايا العربية الكبرى، ودعمها المستمر للبنان والسودان، ووقوفها الدائم إلى جانب القضية الفلسطينية.
ثم وجه تحية خاصة لوزير الثقافة الأسبق “فاروق حسني” ، الذي كان وراء فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير، معتبرًا إياه “رمزًا للحضارة المصرية الحديثة وشهادة على عبقرية المصريين في البناء والإبداع”.
بريق النجوم على السجادة الحمراء
لم يقتصر الحفل على الوجدان فقط، بل كان مناسبة فنية واجتماعية كبرى جمعت نخبة من رموز الشاشة المصرية والعربية.. حيث شهد الافتتاح حضورًا لافتًا لعدد من النجوم من أجيال مختلفة: أحمد السقا، صبري فواز، أحمد شاكر عبد اللطيف، أحمد مجدي، ليلى عز العرب، درة، سلمي أبو ضيف، ميرهان حسين، جومانا مراد، نرمين الفقي، خالد الصاوي، شريف منير، حسين فهمي وزوجته، أمير المصري ووالده، محمود حميدة وابنته، خالد سليم، كريم قاسم، مصطفى خاطر، محمد عبد الرحمن “توتا”، وغيرهم من الممثلين والمخرجين والإعلاميين… كان المشهد أشبه بعرس فني مصري يعكس ثراء الحراك الثقافي، ويؤكد استمرار المهرجان كمنصة دولية تجمع بين الأصالة والتجديد، وتعيد لمصر مكانتها كعاصمة السينما في الشرق الأوسط.
“المسار الأزرق”.. الافتتاح بفيلم إنساني عابر للحدود
اختار المهرجان افتتاحه بفيلم يحمل عمقًا إنسانيًا ورؤية بصرية فريدة، وهو العمل البرازيلي **”المسار الأزرق” (The Blue Trail – O Último Azul)** للمخرج الشاب جابريل ماسكارو، في إنتاج مشترك بين البرازيل والمكسيك وتشيلي وهولندا.
و يأتي هذا الاختيار انعكاسًا لتوجه المهرجان نحو الانفتاح على التجارب السينمائية العالمية التي تتقاطع فيها قضايا الإنسان مع الجماليات البصرية.
ماسـكارو، المولود عام 1983، يُعد من أبرز المخرجين في أمريكا اللاتينية، حيث حصدت أفلامه أكثر من 50 جائزة دولية، واختير فيلمه “ثور النيون” ضمن أفضل عشرة أفلام في قائمة “نيويورك تايمز” لعام 2016، بينما شارك فيلمه “”الحب الإلهي”” في بانوراما مهرجان برلين السينمائي، ما جعل من اختياره لافتتاح المهرجان المصري إضافة نوعية للمشهد السينمائي العربي.
رحلة عبر الأمازون: السينما كبحث عن الحرية
يروي الفيلم حكاية تيريزا، امرأة سبعينية تُجبر على الانتقال إلى مستعمرة للمسنين في منطقة الأمازون، لكنها، بدلاً من الاستسلام، تختار الهروب في رحلة عبر النهر لتحقيق أمنية أخيرة قبل أن تُسلب حريتها..
تتحول رحلتها إلى تأمل وجودي في معنى الشيخوخة والكرامة والحرية، في عالم يُقدّس الإنتاج وينسى الإنسان.. بدا اختيار هذا الفيلم للافتتاح وكأنه رسالة خفية من المهرجان نفسه: أن الفن ليس هروبًا من الواقع، بل مقاومة ضد التلاشي.
مهرجان القاهرة.. ذاكرة الفن ورسالة المستقبل
لم يعد “مهرجان القاهرة السينمائي” مجرد حدث ثقافي عابر، بل اضحى منصة فكرية وإنسانية، لا يكتفي بعرض الأفلام أو تكريم النجوم، بل تقدّم كل عام مرآةً لهوية مصر الثقافية، ورسالةً للعالم بأن الفن ما زال صوت الضمير الإنساني.
فبين تكريم الراحلين، واستحضار رموز الفن، واختيار أفلام تُعبّر عن قضايا الإنسان والحرية والذاكرة، استطاع المهرجان أن يجمع الماضي بالحاضر، ويؤكد أن “السينما ليست ترفًا، بل ذاكرة الشعوب وبوصلة القيم” .





