
من قوامة منتهية لطلاق متصاعد: المغرب يعيد تعريف الأسرة
بين مدونة الأسرة الصادرة عام 2004 والمدونة المنتظرة التي لم تر النور بعد، يعيش المغرب اليوم حالة مراجعة عميقة وغير معلنة لمفهوم الأسرة نفسه. فالنص القانوني، رغم أهميته، لم يعد وحده المحدد لمسار العلاقات الزوجية؛ إذ يتحول المجتمع نحو نماذج جديدة من الشراكة والاختيار، وتغدو حياة الأفراد الخاصة أكثر حضورا في النقاش العمومي، وأكثر طلبا للاعتراف والاحترام.
ورغم تأخر الإصلاح التشريعي، فإن الإصلاح الرمزي قد بدأ بالفعل: في لغة الأزواج، في جرأة النساء، وفي شكل المفاوضة اليومية داخل الأسرة. ولعل الطلاق، بما يمثله من نقطة نهاية وبداية في آن، هو المؤشر الأكثر وضوحا لهذا التحول.
أرقام تكشف اتجاها جديدا
تظهر المعطيات القضائية لسنة 2024 تسجيل 40.214 حالة طلاق، مقابل 40.028 حالة سنة 2023. أرقام صغيرة في ظاهرها، لكنها تكشف اتجاهاً تصاعدياً ثابتاً، يتجاوز 400 حالة طلاق يومياً.
المثير في الموضوع، أن الطلاق بالتراضي يشكل اليوم أكثر من 96 في المائة من حالات الطلاق، وفق التقرير السنوي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية. هذا التحول النوعي يعكس انتقالا من الطلاق بوصفه مسطرة صدامية إلى الطلاق باعتباره اتفاقاً بين شخصين اختارا إنهاء علاقة لم تعد يعبر عنهما.
هذا ومنذ 2004، وفّرت مدوّنة الأسرة آليات مهمّة: التطليق للشقاق، التقييد القضائي للطلاق، وتعزيز حقوق المرأة، غير أن النقاش العمومي الذي اندلع منذ خطاب الملك محمد السادس في 2022 فتح الباب لإعادة مراجعة شاملة.
المدونة الجديدة وما روج لما حملته من اليات على أهميتها قاصرة
رغم الحماس الذي رافق النقاشات حول مدونة الأسرة المرتقبة، تتحدث المقتطفات المسربة وما يتداوله الفاعلون الحقوقيون والقانونيون إلى أن الإصلاح القادم، وإن حمل بعض الآليات المهمة—من تبسيط مسطرة الطلاق، وتعزيز الولاية المشتركة، وتقييد الزواج المبكر—إلا أنه لن يكون بالضرورة في مستوى التحوّلات العميقة التي يعيشها المجتمع المغربي.
فالأسرة المغربية تغيّرت بوتيرة أسرع من قدرة التشريع على المواكبة.
لم يعد النقاش فقط حول أدوات الطلاق أو شروط الزواج، بل حول تصور جديد كلياً للعلاقات: علاقة تقوم على الندية، على استقلالية الأفراد، وعلى مركزية الاختيار. ومن ثمّ، فإن أي إصلاح قانوني لا يلتقط هذه التحولات البنيوية سيظل إطاراً عاماً يضبط المسطرة، دون أن يعكس فعلاً الوعي الاجتماعي الجديد الذي يرسم ملامح الأسرة الحديثة.
إن المشكلة ليست في نقص المواد القانونية، بل في أن المجتمع نفسه تحرك من “أسرة القيم الساكنة” إلى “أسرة التعاقد والتفاوض”، ومن زواج تديره العائلة إلى زواج تديره الذات. وهذا التحول الهائل قد يجعل المدونة الجديدة، مهما كانت طموحة، متأخرة خطوة خلف المجتمع.
ما حدث في المغرب، وبشكل نهائي تقريباً، رغم اعتراض المحافظين والنكوصيين، هو أن قوامة الرجال انتهت إلى غير رجعة. ليس لأنها أُلغيت قانونياً بشكل صريح، بل لأنها تفكّكت اجتماعياً قبل أن يصلها المشرّع.
فالقوامة التي كانت تقوم على التفوق الاقتصادي، وعلى احتكار القرار داخل البيت، وعلى “شرعية” الدور الذكوري التاريخي، فقدت اليوم مرتكزاتها الأساسية.
لم يعد الرجل هو المورد الوحيد، ولا صاحب القرار المطلق، ولا مركز السلطة الأسرية.
المرأة خرجت إلى الفضاء العام، تعمل وتكسب وتعيل، وتشارك في اتخاذ القرار.
الأبناء يعيشون في عالم رقمي لا يعترف بتسلسلات السلطة القديمة.
والزوجان أصبحا في علاقة تُدار بمنطق التفاوض لا بمنطق الهيمنة.
المفارقة أن هذا التحول لم يأتِ من نص قانوني يعلن انتهاء القوامة، بل من تحوّل عميق في شروط الحياة ذاتها.
القوانين يمكنها أن تؤخر، أن تضبط التفاصيل، أن تحدد المساطر… لكنها لا تستطيع أن توقف حركة المجتمع حين تقرّر تغيير قواعد اللعبة.
ولهذا، يبدو أن النقاش الدائر اليوم حول ضرورة الحفاظ على “القوامة” صار نقاشاً بلا موضوع:
فما سقط اجتماعياً لا يمكن إحياؤه قانونياً.
وما تغيّر في وعي الناس لا تعيده موادّ المدونة إلى الخلف.
لقد دخل المغرب زمن الندية داخل الأسرة، مهما حاول البعض التظاهر بأن الأمور ما تزال كما كانت.
والمدونة القادمة، مهما كانت صياغتها، لن تستطيع سوى الاعتراف بما حدث بالفعل:
قوامة الرجال أصبحت جزءاً من الماضي.
لا حلّ للمغرب اليوم إلا أن تتوافق قوانينه وتشريعاته مع المجتمع الذي تغيّر موضوعياً وتاريخياً، لا بإرادة سياسية فقط، بل بفعل تحوّلات اقتصادية وثقافية ومعيشية عميقة.
فمشكلة المغرب في مدوّنة الأسرة، وفي غيرها من القوانين، ليست نقصاً في النصوص، بل في الفجوة المتسعة بين البنية القانونية المترددة والبنية الاجتماعية التي تحركت بلا انتظار.
حين تتغير البنية التحتية—سلوك الناس، شكل الأسرة، مواقع السلطة داخل البيت، وضعية المرأة، علاقة الأفراد بالحرية والجسد والاختيار—فإن البنية الفوقية لا يمكنها البقاء كما هي. إن الإصرار على الإبقاء على نصوص قديمة في مواجهة واقع جديد هو محاولة لإحياء زمن انتهى، ومحاولة لفرض هندسة اجتماعية لم تعد قابلة للحياة.
المغرب يعيش اليوم ولادة مجتمع جديد
مجتمع فرداني أكثر، تفاوضي أكثر، نسائي أكثر، مديني أكثر، ومرتبط بالعالم أكثر.
ومثل كل ولادة، هناك ألم في الانتقال، ومقاومة من القوى التي تخشى فقدان الامتيازات القديمة، وتشبث بما تبقى من رموز السلطة التقليدية.
لكن الحقيقة التي يصعب الاعتراف بها هي التالية:
لا مستقبل لأي إصلاح لا يبدأ من المجتمع نفسه.
ولا فاعلية لقانون لا يستلهم ما يحدث في العمق: في البيوت، في العلاقات، في المدن، في الحياة اليومية، في أحلام الأجيال الجديدة.
لا حلّ للمغرب إلا أن يعيد بناء “البنية الفوقية” القانونية والثقافية على “البنية التحتية” التي تحولت فعلاً.
ولا حلّ إلا أن يتصالح التشريع مع ما أصبح الناس عليه، لا مع ما يريد البعض أن يظلّوا عليه.
فالمجتمع وُلد… والباقي مجرد إجراءات لتسجيل الولادة في السجلات الرسمية.





