الجزائر: في حوار صحيفة “لبيراسيون” الفرنسية مع الباحث سانتا كروز ..المتظاهرون الشباب عكس الكليشيهات وثورتهم نوعية
من خلال التعبئة السلمية؛ أرسل المجتمع الجزائري رسالة صارمة إلى ما وراء الجزائر ودول العالم العربي، وفق توماس سيرس، الباحث والمحاضر في قسم السياسة بجامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، وهو مؤلف كتاب “الجزائر في مواجهة الكارثة المعلقة.. إدارة الأزمة وإلقاء اللوم على الشعب في عهد بوتفليقة (1999-2014)”، الذي نشرته جار كرتالا (Karthala)، في (مارس) 2019، حول الحراك الثوري الدائر في الجزائر اليوم، وكان هذا الحوار، الذي أجرته صحيفة “لبيراسيون” الفرنسية مع الباحث.
ماذا تعني استقالة عبد العزيز بوتفليقة بعد وجوده عشرين عاماً على رأس البلاد؟
تمثّل استقالة بوتفليقة النجاح الثاني للتعبئة الشعبية، بعد إلغاء الانتخابات الرئاسية، كان هذا الخروج عن السلطة أحد الأهداف الأولية للمتظاهرين، ويمثل خطوة رئيسة في العملية الحرجة، لم تعد رئاسة بوتفليقة مقبولة، ولا يمكن للسلطة القائمة أن تتجاهل الثورة.
ما هي المشاعر التي يلهمك بها هؤلاء الشباب الذين يتظاهرون منذ أكثر من شهرين؟
لم أرَ من قبل قدوم هذه الحركة الرائعة والمؤثرة للغاية، والهادئة والمنظمة، بعد كتابة هذا الكتاب حول هذا النظام السياسي الجزائري، الذي لا يتوقف أبداً عن تجديد نفسه بأشكال أخرى، من الحزب الواحد إلى “الكارتل” المهيمن اليوم، كنت أستسلم إلى التشاؤم، هؤلاء المتظاهرون يثبِتون أنّ لا شيء قدر محتوم، في النهاية يمكننا أن نرى أن التمرّد ممكن، وأنه لن يختفي بالضرورة في دوامة الفوضى، حدثت الثورة الرمزية بالفعل، ويبقى أن نعرف ما الذي سيحدث لحركتهم السياسية، لا أرى كيف يمكن تجنّب تغيير عميق هذه المرّة، كان النشطاء الذين قابلتهم يتحرّكون ضمن إستراتيجية من المقاومة على المدى الطويل، إنها الأرض الخصبة لثورة سلمية تعود أصولها إلى ما قبل شهر شباط (فبراير)، على سبيل المثال؛ اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلين عن العمل، أو منظمات مثل تجمع نشاط الشباب، كان من الضروري أن يقلبوا وصمة العار: محاولة إعطاء كرامة للعاطلين عن العمل، إلى الشباب، الذين تحمّلوا جزءاً كبيراً من العنف الاقتصادي والجسدي الذي فرضه النظام.
هل هذه علامة على أن خطر الكارثة سيتوقف أخيراً؟
يمكننا الإجابة بعدّة طرق؛ من ناحية، لم يعد هناك تهديد أمني، أو كارثة تنتظر السكان، لكن يمكننا أن نرى الحراك الشعبي الحالي، كخطر وجودي حقيقي على النظام القائم، مصطلح الكارثة لا يتعلق بالبلد الحقيقي فحسب، بل ببقاء “الكارتل”، أي “النظام”، الذي يسيطر على الدولة، حتى لو كان من الممكن إعادة تشكيل الائتلاف الحاكم؛ لأنه متنوّع بما فيه الكفاية، فإن هذه الحركة الثورية في الوقت الراهن تمثّل بالفعل كارثة حقيقية على النظام.
في كتابك، تحاول تمزيق غموض التعتيم الذي يجعل هذا البلد مثيراً للدهشة، وفي الوقت نفسه يجعله مكبّلاً حول نفسه…
وراء لعبة الظل والضوء هذه، يمكن القول: إنّ أصعب شيء هو تجاوز الكليشيهات، لدينا معطيات خامّ تحت تصرفنا، وأمثلة عن العنف الجسدي، لكن لا يمكن للمرء أن يفهم جزائر بوتفليقة، أو انهيارها، دون أن يرى الطبيعة الرمزية البارزة لِما يحدث منذ عشرة أعوام، أشكال العنف اقتصادية وبوليسية وجسدية، ولكنْ رمزية أيضاً، فحتى مجرد تصورات الذين يمسكون بالسلطة وتصورات السكان، تصوّرات عنيفة؛ فهي تُظهر سلطةً تهيمن على شعبٍ تعامله معاملة الأطفال، ما تزال الأجهزة البيروقراطية والعسكرية موجودة، لكن كي يكون خيال السلطة فاعلاً، يجب أن يكون الذين يُجسّدون هذه السلطة قادرين على التحدث، وعلى التحدث جيداً…
ما الذي تقصده في عنوانك بعبارة “إلقاء اللوم على الشعب”؟
هناك استمرارية في الجزائر، وهي تبدأ منذ قيام الاستعمار، يُنظر إلى الشعب الجزائري بالفعل ككتلة فوضوية وغير منضبطة، وقد استمر هذا بعد الاستقلال ؛ فهذه الجماهير تزعم السلطةُ أنها غير ناضجة، وتعتبرها الحكومة البيروقراطية مشكلة موروثة عن حرب الاستقلال، هناك ما يشبه الفجوة ين السلطة و”الشعب” المُحرّر والبطولي الذي يمجّده التاريخ الرسمي للبلاد، في تقاليد القومية الجزائرية، يملك الشعب الثوري صورة من القدسيّة السياسية التي تتصادم مع صورة البؤسويّة، والأبوية التي يعامَل بها السكان. في عام 1988، كان النظام خائفاً من شعبه؛ حيث صوّت بعضهم لصالح إسلاميّي جبهة الإنقاذ الإسلامي، كانت العقوبة فظيعة: عشرة أعوام من الحرب الأهلية، والتي ألقِيَ باللوم فيها على الأشخاص الذين صوّتوا بشكل سيئ، والذين تم التلاعب بهم، هذا الكلام الصادر عن الطبقة الحاكمة وُجِد أيضاً في الصحافة الخاصة؛ بل وحتى في صحافة المعارضة، بعض المعارضين الذين حاولوا بالفعل فهم الوضع سرعان ما قاموا بإلقاء اللوم على السكان، الذين وصفوهم بأنهم ليسوا عصريين بما فيه الكفاية، وغير وطنيين، وخُرافيين، …إلخ
إنهم ينخرطون في ممارسة التمثيل الذاتي لتدمير هذه الكليشيهات، إنهم يقدّمون مظاهرة علنية، وهذه هي الطريقة التي يديرون بها ثورتهم الرمزية.
كيف يمكن لبلد كان له تأثير كبير في الستينيات والسبعينيات أن يجد نفسه اليوم خامداً؟
في الواقع؛ إننا نميل إلى نسيان أن الجزائر كانت عاصمة لمناهضة الاستعمار، والمكان الذي ولدت فيه معظم الأفكار التحررية، إنه أيضاً المكان الذي يكمن فيه العنف الرمزي لهذا النظام، كيف يمكن لبلد يمثل الانفعال الثوري أن ينتهي بنظام يجسّده رجل لا يحرك ساكنا تقريباً، لقد تحوّل المثلُ الأعلى للقداسة الثورية الذي كان يفترض أن يغير العالم في الستينيات إلى نظام مكيافيلي دائري بالكامل، السلطة لم تعد تخدم سوى السلطة ؛ لذلك فهو يسعى لأن يُعيد الحياة لشخصية مثل بوتيفليقة، من أجل إدامة نفسه، بعد أن كان في طليعة الطوباوية، أسقط هذا النظام السياسة، لممارسة السياسة قصيرة الأجل، من أجل البقاء في السلطة.
من الآن فصاعداً، المجتمع بأكمله يتحرك…
لأنّ هذا المثل الأعلى من القدسية السياسية الذي تجسده الجزائر الثورية لم يمت، بالنسبة إلى الشعب، فهذا ما نراه في هذه اللحظة، لم ينسَ الشعب، رغم الصفح والنسيان، هذه الخلفية الوطنية القديمة، هذا المثل الأعلى محافَظ عليه بمرور الزمن، على مدار عقود، خاصة من خلال شخصيات شهداء الدولة، أمثال: محمد بوضياف، والوناس معطوب، وغيرهما الكثير، لم يكن هناك ولاء كثيف لنظام بوتفليقة، كان لديه ناخبون، لا جدال فيه، لكن هذا النظام كان يبدو مزيفاً، وقد توقف عن قول أشياء مهمة، لم يعد الأمر سوى مسألة استمرارية نموّ باهتة، دون طموح، ودون أيّة رغبة في جعل العالم أفضل.
وسائل الإعلام الغربية تأثرت أيضاً بهذه الكارثية؟ خلال الربيع العربي، وتوقع بعضها أنه إذا تحركت الجزائر أيضاً، فإنها ستواجه خطر الفوضى.
لكن، لأنّ الكارثة ليست مجرد خرافة؛ فهي تستند أيضاً إلى عناصر موضوعية، سواء أكان الأمرُ عنفَ النظام أو أعمال الشغب المتكررة، ناهيك عن الإرهاب الذي ما يزال قائماً، كانت هناك عوامل موضوعية، لم ينخدع المراقبون فقط بالمظاهر، تصاعد العنف كان يبدو أمراً ممكناً، رغم رغبة الجزائريين في الحفاظ على السلام، علاوة على ذلك، كانت رؤية هذا البلد في وسائل الإعلام الفرنسية محقِّرة، أو سلبية على الأقل، حتى الخبراء، الذين أنا واحد منهم، يجدون صعوبة في الخروج من منطق السوق المعلوماتية هذه؛ إنهم يجيبون عن الأسئلة التي تُطرح عليهم دون التشكيك فيها أو مراجعتها وتأملها.
تتحدث عن الغموض المنظم في هذا البلد، هل تَمزّق الحجاب أخيراً؟
التظاهر في الشارع، يعني أنك تحت الضوء الكامل، لا يمكن القيام بالسياسة فقط في الصيدليات، ولكن في الشارع أيضاً، عندما يتظاهر الشباب بكوادر فارغة؛ فإنهم يطالبون بسيادة واضحة ومباشرة، بالطبع، نحن لا نعرف حتى الآن كلّ ما يجري داخلياً؛ لأن هناك حتماً مفاوضات، في خبايا السلطة، ولكن أيضاً في القنصليات الغربية، لكن هذه المفاوضات أصبحت ثانوية، فهي لا تستطيع توليد الشرعية، أولئك الذين كانوا يوصفون بأنهم كتلة قليلة الأدب والتربية يمثلون اليوم أبطالًا ويولّدون سلطتهم الخاصة، دون مرشح، وضد الكليشيهات.
هل ترى أيّ تشابه مع مايو 68؟
هناك تشابه بالطبع، كما هو الحال بين جميع الحركات الثورية، يمكننا أن نلاحظ دور الطلاب، وطبيعة بعض الشعارات والتضامنات التي تنشأ مع هيئات أخرى في المجتمع، لكن في الجزائر اليوم، ليست المسألة مسألة تحرير الهيئات، أو التعليم أو المجتمع؛ إنها مسألة تحرير الدولة من عصابة من الحيوانات المفترسة، التي “خصخصتها” الدولة، بطريقة أو بأخرى، إذاً هناك مطالبة بإعادة توزيع السلطة والثروة.
من خلال إخراج بوتفليقة من السلطة بنجاح في غضون أسابيع قليلة، ما هي الرسالة التي يرسلها المجتمع الجزائري إلى بقية العالم؟
المتظاهرون يرسلون رسالة جذرية إلى بقية العالم، هذه التعبيرات تذهب أبعد من الجزائر ودول العالم العربي، بما في ذلك البلدان التي تدعي أنها “ديمقراطية”، مثل فرنسا، لقد وجدت أزمة الأنظمة التمثيلية في الجزائر مثالاً كارثياً تماماً: محاكاة تمثيل في خدمة جهاز الدولة ورجال الأعمال وزمرة غير متجانسة من الأفراد المختارين، في المقابل؛ ألقى المتظاهرون خطاباً أكدوا فيه من جديد الطابع غير المسبوق للسيادة الشعبية، المباشرة، والمتحررة من ثقل التمثيل عندما يكون المندوبون غير جديرين بالثقة، بفضل الانضباط الذاتي للسكان، وإظهارهم للمواطنة الراديكالية والأفقية، عنف الدولة البوليسية لم يكن مبرراً أبداً، في كل من المحتوى والشكل، إنها قيمة مثال رائعة.
ما هي البدائل عن بوتفليقة اليوم؟
إذا كان للجيش دور مهم للغاية في الجزائر؛ فظنّي أنّه يبدو من المستحيل أن يستولي على السلطة ، علاوة على ذلك، لن يرغب السكان في الحصول على شخصيات من هيكل الدولة الحالي، مثل: رمضان لعمامرة، أو عبد القادر بن صالح، أو طيب بلعز، تدعم جماعات داخل النظام وبعض المعارضين الرئيس الأسبق ليامين زروال، وهو جنرال متقاعد قاد البلاد في أوج الحرب الأهلية، لكنّ أولئك الذين يطلق عليهم المُصالِحون، أي الجماعات التي تعارض إستراتيجية الاستئصال من قبل الدولة خلال الحرب الأهلية، سوف يرفضون وصول زروال إلى السلطة. هو نفسه قد رفض هذه الفرضية في الوقت الحالي، على جانب المعارضة لا يوجد شخصية تحقق التوافق في الآراء بين الأحزاب الجزائرية الخمسين، أو نحو ذلك.
على رئيس مجلس الأمة الجزائرية، عبد القادر بن صالح، تنظيم انتخابات جديدة في الأشهر الثلاثة المقبلة؛ هل يمكن تحقيق انتقال سياسي في مثل هذا الوقت القصير؟
لا، إذا تحدثنا عن تغيير عميق في عمل المؤسسات وطبيعة النخب السياسية، كما يطالب المتظاهرون، فستستغرق الثورة أعواماً عديدة، بل عقوداً، لن تختفي الدولة، أو تعيد تشكيل نفسها بالكامل في غضون ثلاثة أشهر، إن زمن الانتقال السياسي الذي يحاول النظام فرضه يمثل إشكالية كبيرة للمعارضين؛ لأنّه من الضروري التصرف بسرعة من خلال استبعاد عدد من الجهات الفاعلة المشكوك فيها، التي فقدت حظوتها تماماً، لكن عن طريق التفاوض مع الذين ما يزالون يحتفظون بالمؤسسات حتى هذه الساعة. في الوقت الحالي، لم يتغير شيء.
طلب رئيس أركان الجيش الجزائري، يوم الثلاثاء، 2 (أبريل)، أن “يطبق على الفور” الإجراء الدستوري لإقالة الرئيس بوتفليقة من السلطة، الأمر الذي عجل بمغادرة الأخير من منصبه، ما هي طموحات الجيش؟
في الجزائر، يتمتع الجيش بشرعية تاريخية؛ فهو يملك وظيفة المناعية والوصاية، التي هي في آن واحد الدفاع عن الأمة والسيطرة على اللعبة السياسية، وله أيضاً تأثير اقتصادي منذ الاستقلال، لا ننسى أن الميزانية العسكرية مرتفعة للغاية، أكثر من 5 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، دون أن تخضع لتدقيق البرلمان، في هذه الحالة؛ كان غرض تدخل الجيش ذا شقين. كان عليه بالطبع أن ينهي الأزمة السياسية ، ولكن أيضاً أن يحمي مصالح هيئة الأركان العامة، سيما مصالح رئيس الأركان، أحمد قايد صالح، الذي كان شريكاً لبوتفليقة، منذ تعيينه، عام 2004، تورُّط الجيش في الأزمة الحالية ليس مفاجئاً، فهي جزء من الوظيفة التاريخية للمؤسسة، وللدفاع عن مصالح كبار المسؤولين.
ما مصير معسكر بوتفليقة؟
إنّ إخوة بوتفليقة يخضعون للإقامة الجبرية، مما يدل على أنهم ربما سيخضعون للمساءلة، سيما سعيد، علاوة على ذلك، فإن الرأسماليين المؤيدين لبوتفليقة، المشتبه في ضلوعهم في الفساد ، هم أهداف الهجوم القضائي الهائل، كما يتضح من حظر الخروج من الأراضي الذي يستهدف بشكل خاص، محي الدين تحكوت، أو رضا قونيف، التطور الأكثر إثارة هو خضوع علي حداد لأمر الاعتقال، ونقله إلى سجن الحراش، وأعضاء جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي لن يكونوا أيضاً جزءاً من الحكومة الجديدة؛ فهم يجسدون عدم الكفاءة، ومشاركة الأرباح التي ندّد بها المتظاهرون، ومع ذلك، سوف يستغرق الأمر أكثر من تحنيط عدد قليل من رجال الأعمال، وتهميش أحزاب النظام لإسقاط “النظام” حقاً؛ فالعملية ليست فقط عملية “إزالة نظام”؛ حيث ستظل هناك مهما حدث، بعضُ الاستمرارية للدولة، سيظل الجنرالات والمحافظون والموظفون السامون من اللاعبين الرئيسين، حتى بعد ثلاثة أشهر من عملية الانتقال.
المصدر: حفريات