روائي جزائري يقرأ رواية “ظل الغريب” للروائي المغربي أحمد المديني وسؤال العلاقة بين البلدين
تخوض الرواية في مختلف القضايا وأكثرها تعقيدا بسلاسة، كاشفة الحقائق، ممهدة الطريق إلى خلق وعي آخر بالواقع والتاريخ. وهكذا كانت رواية “ظل الغريب”، التي أضاءت على جانب نير ومعتم في آن حول العلاقات الجزائرية المغربية.
منذ حرب الرمال بين الجزائر والمغرب والتي وقعت في أكتوبر 1963، والعلاقة الجزائرية المغربية متوترة ولا تزال، غيوم ما تكاد تتبدد حتى تغشي صفاء السماء الواحدة التي يتظلل بها الشعبان الشقيقان ثانية، غيوم وقطيعة وحرب باردة، مع ذلك قبل هذا التاريخ كانت العلاقة بين البلدين متينة ومصيرية خاصة أيام الثورة الجزائرية، حيث انخرط المغرب الشقيق شعبا وسلطة سياسية إلى جانب الثورة الجزائرية واحتضن جزءا منها كما احتضنتها تونس في الجانب الآخر.
في رواية “ظل الغريب” للروائي المغربي أحمد المديني، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، تتداخل السيرة الذاتية مع التاريخ، حيث ترصد الرواية مسار حياة شخصية علي بن زروال وهو أستاذ التعليم الثانوي من مدينة الدار البيضاء، يجيء الجزائر العاصمة في إطار عقد مع وزارة التربية الوطنية الجزائرية لتدريس مادة التاريخ والجغرافيا بثانوية الأمير عبدالقادر بمدينة الجزائر العاصمة.
رحلة بن زروال
يغادر علي بن زروال وهو المناضل المتعاطف مع اليسار المغربي الدار البيضاء إلى الجزائر على وقع محاولة الانقلاب على الملك التي قادها الجنرال أوفقير أحد المقربين للملك، المغرب يدخل شبه فوضى سياسية، والوضع يقترب نحو اللااستقرار، المناضلون يلاحقون من قبل الشرطة ويرمون في السجون دون محاكمات، الرعب يعم الجميع.
على الجهة الأخرى من الحدود البرية، أي في الجزائر، النظام الجزائري يستقبل الآلاف من المناضلين المغاربة المناهضين للحكم الملكي، قادة ورؤساء أحزاب ومنظمات ومثقفين يعبئهم ويدرب بعضهم لزعزعة سلطة الملك، هي الحرب الباردة بين الأشقاء.
في ظل هذه الظروف يصل علي بن زروال الجزائر العاصمة، مدينة تعيش على وقع الاحتفالات المستمرة بنشوة الاستقلال، حيث المواطنون البسطاء والمسؤولون على جميع المستويات وفي كل القطاعات يعيشون حالة سيكولوجية غريبة تتميز بطغيان نشوة الفرح المليئة بالفوضى والغامرة بالنخوة والكسل وعبادة الماضي القريب، أي سنوات الثورة، فالمجتمع كله من القمة إلى القاعدة يعيش على أطلال الثورة، معتقدا أنه يستطيع أن يصنع منها خبزا وسياسة ونظاما يدير به مؤسسات الدولة المستقلة الباحثة عن المعاصرة والعدل والحرية.
رواية “ظل الغريب” تحمل مقاربة متميزة للعمق الداخلي لسيكولوجية الفرد الجزائري في سنوات الاستقلال الأولى
كل شيء في يوميات العاصمة، من أحاديث ومظاهر الشوارع واللافتات واللغة والأغاني، يدور حول “الثورة”، والجزائر العاصمة مدينة جمعت كثيرا من حركات التحرر الأفريقية والعالمية، وهذا هو رأسمالها الذي تعيش عليه يوميا وتقتات منه وتصنع لنفسها صورة لامعة، لكن خلف هذه الصورة تبدو الجزائر الأخرى، جزائر الحزب الواحد، حزب جبهة التحرير الوطني المهيمن على مفاصل مؤسسات الدولة والواضع يده على الحياة السياسية برمتها، حيث تختلط مؤسسات الدولة بهياكل الحزب لتصبح واحدة، وباسم الشرعية الثورية تشكلت شريحة اجتماعية تملك سلطة القرار وتتحكم في رقاب المواطنين وفي مستقبل البلاد برمته.
كل هذا نكتشفه من خلال شخصية علي بن زروال الذي يصل الجزائر للعمل أستاذ في الثانوية، وفي الوقت نفسه يحمل معه رسالة سرية من أحد المناضلين المغاربة إلى رفيق له يقيم في الجزائر كلاجئ سياسي، ومن الليلة الأولى التي يصل فيها الجزائر والتي سيقضيها الأستاذ بن زروال في مخفر للشرطة بعد أن تعذر عليه العثور على غرفة في أحد فنادق العاصمة، حيث كل الغرف محجوزة، نكتشف صورة لهذه المدينة التي هجم عليها الجميع من المدن الداخلية والقرى المجاورة حيث كل واحد يعرف بأن الوصول إلى أي هدف أو عمل أو حل مشكلة يجب أن يمر بالعاصمة، وبعد أن يتعرف صدفة على مواطن مغربي يقيم في المدينة.
يقترح عليه أن يلتجئ إلى الآباء البيض اليسوعيين الذين يملكون مقرا فيه بعض الغرف لإيواء بعض المحتاجين مؤقتا، يستقر به المقام عند الآباء البيض وسط العاصمة، لكنه ومع مرور الأيام ونظرا إلى انضباط الحياة في هذا المكان الديني، وهو ما حد من حرية بن زروال وجعله يشعر بالقيد في يديه، لكن الخلاص يجيء أخيرا بأن وضعت وزارة التربية الوطنية بيتا جميلا تحت تصرفه، والكائن بحي تليملي الراقي بأعالي العاصمة والمطل على ميناء العاصمة، والذي كان الفرنسيون يطلقون عليه اسم شرفات العاصمة، في هذا البيت يستعيد البطل حريته ويبدأ في اكتشاف المدينة ومن خلالها صورة الجزائر في منتصف سبعينات القرن الماضي.
استحالة العودة
من خلال هذه الشخصية الرئيسية في الرواية والتي فيها الكثير من ملامح الروائي أحمد المديني، نكتشف ثقافة الروائي المتميزة جدا، فالنص مليء بالقراءة الموسيقية للجزائر والذوق الموسيقي اللذين كانا طاغيين في السبعينات، وفي هذا تحمل رواية “ظل الغريب” مقاربة متميزة للعمق الداخلي لسيكولوجية الجزائري في سنوات الاستقلال الأولى.
وتبدو رواية “ظل الغريب” نصا في تفكيك العقلية الريفية والأيديولوجيا الذكورية المهيمنة على مدينة الجزائر المستقلة، نكتشف ذلك من خلال علاقة البطل بالمرأة، فعلى الرغم من مظاهر التقدم والعصرنة إلا أن الجزائري يبدو طهرانيا وريفيا ومحافظا في علاقته بالمرأة، فهي تبدو في حمايته وتحت عينه ورقابته الأخلاقية الأبوية وكأنها في سن غير راشدة مستمرة، والمدينة بماخورها تبدو غارقة في أخلاق كاذبة.
والرواية تمثل مقاربة ذكية ودقيقة لطوبوغرافيا مدينة الجزائر العاصمة، حيث يعرض الكاتب وبشكل دقيق وحساس مفاصل المدينة في عمرانها، وذلك من خلال حركة البطل وتجواله في أحياء العاصمة، وتذكرني رواية الغريب في هذه المقاربة الطوبوغرافية برواية “أعالي المدينة” لإيمانويل روبلس والتي نشرها العام 1948 وحصلت على جائزة فيمينا، وتجري أحداث رواية روبلس كما رواية أحمد المديني في حي تليملي بالعاصمة، وأعتقد أن لا أحد من الكتاب العرب أو المغاربيين كتب عن العاصمة من الداخل كما كتبها أحمد المديني في “ظل الغريب”.
ومن خلال تفاصيل روائية يستعيد أحمد المديني تاريخ الأمير عبدالقادر وما قدمه المغرب شعبا للثورة الجزائرية وكيف أنه احتضن الثوار في المدن والقرى المغربية وأن أب البطل علي بن زروال نفسه كان واحدا من الذين استقبلوا الثوار الجزائريين في بيته بالدار البيضاء. وتعود رواية “ظل الغريب” وبكثير من التدقيق والتأريخ لما كانت عليه الجزائر العاصمة من حياة ثقافية وسياسية ويأتي الروائي على ذكر كثير من الأسماء التي كانت تنشط الساحة الثقافية والفكرية الجزائرية القادمة من المشرق أو من أوروبا، ومن الأسماء التي يتحدث عنها في الرواية: لطفي الخولي، الباهي حرمة، محمد علي الهواري، محمد عزيز الحبابي، الفقيه البصري..
تنتهي رواية “ظل الغريب” التي تمتد على 408 صفحة بمغادرة بن زروال العاصمة عبر القطار دون إنذار، حتى قبل نهاية الموسم الدراسي، حيث يعود إلى بلده أي المغرب بعد أن يشتاق إلى حبيبته وأيضا يشعر بنوع من السأم في مدينة ضاجة لكنها تبدو وكأنها دون روح، وأنها مدينة جميلة في الشكل لكنها متآمرة على الجمال في العمق.
وعند الوصول إلى المعبر الحدودي “جوج بغال” (وهو العنوان الفرعي في الرواية) بين الجزائر والمغرب، ينزل فجأة خبر انتشار وباء الكوليرا في الجزائر، فتغلق الحدود ويمنع المرور، ويجبر البطل وكل من معه في المعبر على العودة إلى مدينة مغنية للتلقيح ضد الكوليرا، تبعد المدينة عن المعبر الحدودي أقل من عشرين كلم، وبعد عملية التلقيح يجدون أنفسهم مجبرين على المكوث سبعة أيام للتأكد من أن لا أحد مصاب بالوباء، وأمام هذا تضطر المجموعة أن تقضي هذه الأيام على الحدود بعد أن تنصب خياما وتعيش في بؤس قاتل، فلا المغرب يسمح لها بالدخول ولا سلطات مدينة مغنية المجاورة تسمع باستقباله خوفا من تفشي المرض الذي قد تكون مصابة به.
المصدر: صحيفة العرب