صلاح الوديع يكتب : قلب الأم ، قلبُ الأمّة…
(تفاعلا مع رسالة على اليوتوب من أم ملتاعة إلى الملك)
لم أحسب أن الدمع سيغلبني إلى هذا الحد أنا الذي لم تكن حياتي هنيئة مريئة. أنا الذي رأيت في شبابي ما يشيب له الولدان في بلدي…
كان ما أحسسته وأنا أطلع على الأحكام الصادرة في حق نشطاء الحسيمة خليطا من الغضب والحسرة وخيبة الأمل. لكن اللقاء بأمٍّ ملتاعةٍ على اليوتوب – مأوى الأحزان والأتراح والغضب اليوم – كان شيئا آخر تماما. كانت المرأة-الأم تتحدث إلى الملك مباشرة. واثقة من كل كلمة تنز من قلبها قبل أن تسقط دموعا حرّى على شفتيها الناطقتين بالحق. وحتى بعض كلماتها التي يمكن أن يعتبرها صفوة اللغويين والساسة والبرتوكوليين تطاولا على المقام، كان بها من الصدق واللوعة أكثر مما في كلماتهم من النفاق والمداهنة و”التبحليس” وانتظار المكافئات…
لم تكن السيدة تتكلم باسم الام الملتاعة فحسب بل كانت تصدح بحنجرة الأمّة.
لم تكن السيدة أما فقط. بل كانت أمة بكاملها… وأنا أزن ما أقول.
أعرف معنى قسوة الأحكام على مصائر الأفراد والأسر.
أعرف جيدا كل ذلك. ورجاءً بلا مزايدات في هذا الاتجاه، ولا مداهنات في الاتجاه الآخر.
أعرف ذلك جيدا. أنا الذي رأيت أفراد أسرتي بعد أن كان شملنا مجتمعا، رأيتهم مشتتين في المنافي والسجون أو واقفين على أبوابها أو مقتفين أثر فلذات أكبادهم بين المستشفيات أو واقفين بكرامتهم على أبواب المعتقلات من أجل تسليم قفة الأكل أو دروس الكليات الموصدة في وجوههم، ممزوجة بجرعات المودة الجريحة..
أنا الذي أعرف، فلا تلوموا مني شيئا رجاء.
لا تخاطبوا العقل فيَّ من فضلكم.
أعرف أن التجاوزات تكون محتملة في كل حركة احتجاجية مطلبية سلمية غاضبة. وأعرف أن هناك رجال أمن تضرروا خلال الاحتجاجات، وأعرف أكثر من ذلك أننا كلنا – بلا استثناء – نتعلم السلوك الديمقراطي والروح الديمقراطية المفقودة ثقافيا منذ حقب، لكن أن تصل القسوة إلى هذا الحد، هذا ما لا يحتمله السياق ولا يحتمله البلد ولا تحتمله السياسة.
لماذا ذكرتمونا يا معشر القضاة بزمن أغبر نعمل جاهدين على تجاوزه بالتضحيات والتراكمات والصبر والصفح الجميل؟
لقد تغير المغاربة وأصبحوا يتوقون إلى ممارسة مواطنة سيادية، بمعنى أن يكون كل شخص سيد نفسه طبقا للقانون الذي نتوافق عليه وطبقا لدروس السياقات التاريخية التي مرت بنا وطبقا لروح العصر وطبقا للنصيب المشروع من السعادة التي يطمح كل شخص منا أن يضمنه قبل وداع الدنيا الذي هو مآلنا جميعا…
وهنا مربط الفرس.
فما تقوله “الأم-الأمّة” يخترق مغزاه كل معاجم اللغة: لن تقوم لمستقبلنا قائمة دون أن يكون هذا المعطى واضحا في أذهاننا أكنَّا في موقع المسؤولية أم في غيرها، عليه نبني سياسات البلد واختياراته وطرق اشتغاله وأساليب محاسباته…
لذلك وجب الاقرار والاعتراف أن القول الفصل في الموضوع اليوم جاء على لسان الأم الملتاعة. وهو يلخص شعور المغاربة قاطبة اليوم.