بيللا تشاو… للحياة العادية إلى حين
في الأول تابع المغاربة الموضوع مثل قصة خبرية عابرة، قصة من ركام قصاصات الأخبار الذي تغطينا بها يوميا الوكالات والمواقع الرقمية المتناسلة، خبر فيروس ظهر في مدينة ووهان الصينية، قيل إنه يقتل كل من أصابه.
وشاهدنا على اليوتيوب والفيس بوك والمواقع الاجتماعية استغاثات صادرة عن أجانب عالقين في بلاد كونفشيوس والسور العظيم، ومنهم طلبة مغاربة يدرسون بتلك المدينة الهائلة، فتعاطفنا معهم، وانشغلنا بأيامنا. ثم ما لبثنا أن بدأنا نسمع أن الفيروس، وقد حفظنا اسمه السهل على مجرى اللسان، انتقل الى إيران ثم كوريا الجنوبية ودوّل مجاورة، ومع ذلك بقينا فوق أرائكنا نتفرج أمام شاشات التلفزيون والحواسيب والتليفونات الذكية، ما أذكانا.. فما يحدث يقع فقط للآخرين، خاصة وأنه يحدث بعيدا عنا بمسافة تحسب بآلاف الكليمترات.
لم يدر بخلد أحد منا مطلقا أن الوباء اللعين لما هدم سُوَر الصين العظيم، صارت كل أبواب العالم مشرعة أمام وطأته الغادرة، وحتى عندما هاجم الفيروس بلاد الطليان تنافسنا في إنتاج النكت، علق أحدهم ساخرا أن الأمر عاد، أنظروا إلى اسمه الجميل الأحرف، “كورونا”.. أليس اسما مموسقا ذو رنة أوبرالية إيطالية؟ ونسي الكثيرون أن لنا أهلا هناك، فالمغاربة يشكلون الجالية الأولى عددا في وطن دانتي ألليغري، دانتي صاحب “الجحيم”، وكأنه كان على أحفاده اليوم، إعادة البضاعة إلى أصحابها، إلينا، فجحيم دانتي مستلهم من جدنا ابو العلاء المعري، من “رسالة الغفران”!! لذلك لم يجد الورائيون، ورثة جهل الجاهلين، بعد تسلل كورونا إلينا عبر بوابات ميلانو وروما وبريشيا، سوى طلب الغفران من السماء، وحشوا رؤوسا تفتقر عقولها إلى اللون الرمادي، بأن كورونا من جنود الله وقد أرسلها لمعاقبة البشر الغافلين عن ذكره.
وبدأ العداد لدينا يشتغل، كل يوم خبر ورقم تصاعدي يؤكد أننا نستضيف بيننا “كوفيد 19″، اسم يشبه لقب لاعب كرة قدم احتياطي في الريال مدريد أو برشلونة، وقد زرعه المدرب في الربع ساعة الأخير من مباراة نهاية العالم، ليغير إيقاع اللعب ويحقق الفارق، وهو “الجوكر” الذي يلعب في الدفاع والهجوم وكل رقع الملعب العالمي الشاسع ملك مراواغاته وأهدافه القاتلة..
وها نحن وصلنا إلى مرحلة الحجر الصحي في المنازل، وتذكر بعضنا مرة أخرى “رهين المحبسين”، ملهم دانتي، فإذا بنا رهائن أكثر من محبسين، رهائن البيوت، رهائن عمى القلوب والعقول المغلفة بالخرافات الدينية والماورائيات، رهائن الطغيان، رهائن الجشع والفوضى، وفي الختام رهائن من يخططون لنظام عالمي جديد، وقد بلغنا أننا لسنا في وارد حساباتهم، فالعالم لهم فقط وليس لأمثالنا. وقد أعدوا لنا الجحيم لنستريح ونريح.
ليس كلاما مجازا، فقد تابعتم كما تابعت مشهد العربات العسكرية اليومية الحاملة لجثامين قتلى كورونا بالآلاف، وهي في طريقها إلى المحرقة لصناعة الرماد، من دون صلاة ولا مراسيم تشييع، وبلا نعش وتابوت وقبر في مقبرة تزار بالورود المبللة بالدمع والخشوع. يحدث هذا في بلاد الحياة والجمال، إيطاليا. أما أنا فقد بكيت، أبكاني المشهد الجنائزي الكئيب، وكل ساعة يزيد خوفي. صار العالم كله غرفة حجر محجوزة في انتظار فرج مأمول ومرتجى. تكلمت عن الخوف؟ عفوا.. هو الفزع والرعب والوجل والهلع..
وله في لغتنا الجميلة كل الأسماء، ينافس بها القوة القاهرة…!!