من كورونا إلى الكرنتينا…
تعيد “دابا بريس” نشر هذا المقال لصالح الدين لعريني وباتفاق معه، والذي صدر في الموقع الإعلامي لمركز معارف للدراسات والأبحاث، لكل غاية مفيدة.
من كورونا إلى الكرنتينا…
يكشف تاريخ المعرفة الطبية، سواء بالمغرب أو بغيره من الدول العربية أو الغربية، أن سياسية العزل الصحي للمرض من بين الإجراءات الوقائية التي كانت تتخذها الدول إزاء الأمراض الوبائية والمعدية التي خلفت العديد من المآسي والندوب الغائرة والهلع والرعب في نفوس الناس والكوارث في حياة الشعوب. وتعد أدبيات “الكرنتينا” اليوم خير شاهد على تراجيديا هذه المآسي التي خبرتها الإنسانية بالماضي وتناقلتها عبر تاريخها جيلا بعد جيل. ويقصد ب”الكرنتينا” الحجر الصحي، ومعناها سياسة صحية اعتمدتها الدول الغربية منذ القرن الثامن عشر للوقاية من الأمراض الوبائية المعدية.
بحيث كان يفرض الحجر الصحي من طرف المجالس الصحية على السفن الموبوءة أو المشكوك في حالتها الصحية، وعلى الأشخاص والسلع والمواشي الوافدة من مناطق موبوءة أو مشكوك في حملها للوباء. (البزاز محمد أمين، 1992، ص 403).
اجتاحت الأوبئة جل بلدان العالم وعبر مختلف العصور، وهزت البنيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات التي كانت مسرحا لها، مخلفة وراءها شواهد تاريخية ظلت بصماتها الراسخة في البنى الفكرية.
وهو ما يمكن أن نلمسه في أدبيات الأوبئة وخاصة منها وباء الطاعون الأسود الذي حظي بحصة الأسد في اهتمامات الكتاب والأطباء والمؤرخين والأدباء والفقهاء، بالعالمين الإسلامي والمسيحي، وذلك بخلاف باقي الأوبئة كالسل وتيفويد والجذام والكوليرا… إلخ والملاحظ في هذه الأدبيات، الحضور القوي للمكون الديني وللموضوع السوسيولوجي والأنثروبولوجي في الكتابات التي تناولت موضوع الوباء من زاوية الصراع الفقهي والطبي بين رجال الدين والأطباء والموقف من الوقاية. “لم يتناول الإخباريون موضوع الوباء إلا بإشارات مقتضبة جدا.
ويعود هذا التعفف في الغالب إلى أسباب دينية، وإلى الاعتقاد السائد لدى الناس بأن انتشار الوباء لا يعود إلى العدوى، وإنما لقضاء الله وقدره. وبذلك فقد كان موقف الأطباء يميل إلى القول بعامل العدوى سببا أساسيا لانتقال المرض، لكنهم كانوا مترددين في تأكيد ذلك، ما داموا يصطدمون بمسألة دينية يوجد فيها موقف شرعي واضح. أما بالنسبة للفقهاء فالأمر محسوم أصلا، فهم مقيدون بالأحاديث النبوية التي ترى أن الطاعون هو عقاب من الله للمشركين، وإذا حصل وابتلي به المسلمون فلهم الرحمة وأجر الشهيد، لأنهم يموتون بغلطة الكافر.
وقد دفعت هذه النظرة القدرية لوباء الطاعون، الذي ضرب بلاد المغرب الأوسط سنة 849 ه/ 1146 م، الناس إلى إدراك خطورة الوباء والخوف من الموت، والتفكير في الخلاص والقيام بأعمال الإحسان والصدقات والهبات. وكان للوباء أيضا أثر في ذاكرة الناس الذين ظلوا يتذكرون الماضي بالإحالة على مآسيه وصعوباته مثل المجاعات والأوبئة” (محمد فتحة، الوباء الجارف بالمغرب الإسلامي: معطيات ومواقف، 2011، ص 96-97).
يقوم الموقف الشرعي من المرض المعدي والوباء على جملة من الأحاديث النبوية التي تتأرجح ما بين الإقرار بعدوى بعض الأمراض مثل الجذام وإنكار خاصية العدوى عن البعض الآخر كمرض الطاعون.
وقد اتسم موقف علماء الدين المغاربة بالجمود، والانتصار أكثر إلى رفض الاحتراز من العدوى واتخاذ الوقاية، بدعوى أن المرض ابتلاء من الله لعبده، وقدر لا يمكن للمؤمن الذي يؤمن بقضاء الله وقدره أن يهرب منه. وقد وصلت هذه القدرية في تصور المرض إلى حد رفض العلاج والصبر على تحمل الداء وعدم إبداء أية محاولة لمقاومته من طرف الذين ينتمون إلى الحركة الصوفية التي انتشرت في المغرب وبلاد الأندلس خلال العصر الوسيط.
فرغم تركيز أدبيات الأوبئة، التي خلفها المؤرخون والأطباء والفقهاء حول الطاعون في المغرب والأندلس، على إشكالية مشروعية الوقاية في الإسلام، وتجاهلها لكيفية تصدي المجتمع المغربي لهذا الوباء، إلا أنها لا تخلوا الإشارة إلى بعض الإجراءات الاحترازية التي كان يتخذها المخزن تجاه الأمراض الوبائية المعدية. ففي المغرب وبالعصر الوسيط كان المرضى المصابون بالجذام مثلا يعزلون عن الناس؛ بحيث كانت الدولة تعتني بالغرباء بالبيماريستانات، في حين كان المرضى المصابون بالجذام يعزلون في أراض وقرى خاصة باستثناء من لهم أسر تعتني بهم.
مع بداية القرن العشرين، سيطرأ تغيير على استراتيجية مواجهة الأوبئة، إذ عمدت سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب، إلى مواجهة خطر وبائي الطاعون والزهري اللذين أصبحا يهددان صحة رعاياها وجيوشها بشكل مباشر ومتزايد، عبر سنها لمجموعة من الإجراءات الصحية والاستراتيجيات الوقائية للتصدي من جهة للطاعون عبر إحراق المساكن والأمتعة، والقضاء على الفئران بالاصطياد أو التسميم، والتلقيح. ومن جهة ثانية، محاربة الزهري عبر مكافحة “العهارة” ومراقبتها وملاحقة “العاهرات”، والعلاج بالمستوصفات. وقد تمكنت إلى حد كبير من تطويق الطاعون وحصر انتشاره،
ولكنها وجدت صعوبة جمة في القضاء على الزهري والحد من تفشيه، لارتباطه بالفقر وضعف مستوى العيش. لأن استئصاله يقتضي تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمغاربة، مما لم يكن من ضمن أهداف فرنسا بالمغرب. (بوجمعة رويان، الطاعون والزهري بالمغرب، 2011، ص:188-218).
إن التفكير الاجتماعي في العدوى يحيي اللاشعور الجمعي للمرض المعدي كما هو الحال مع مرض الجذام والطاعون والزهري والإيدز…إلخ لتحيا معه الصور الرمزية الراسخة في الذاكرة الجمعية الخاصة بهذه الأمراض وما يرتبط بهذه الصور من إشاعات وأحداث تاريخية متخيلة أو واقعية، كصور العزل والحرق والألم والموت المحتوم. بناء على هذه الصور الرمزية يتشكل متخيل اجتماعي مؤسس لدلالات رمزية مولدة للفزع ومغذية للخوف وموجه للتفاعلات الفردية ولخطابات وتمثلات الناس تجاه هذا المرض الذي يتحول بمقتضى هذا التخيل إلى ظاهرة رمزية وفوبيا اجتماعية. وهذه إحدى أهم خصائص التخيل الاجتماعي عند عالم الاجتماع اليوناني المعاصر كاستورياديس:”التخيل هو الابتكار وذلك الانفصال عن الواقعي سواء بالزعم، أو الكذب، أو القص، أو الحكي الروائي عنه(…) ومن البين أن كل المؤسسات تجد منبعها في المتخيل الاجتماعي وأن كل ثقافة تتضمن متخيلا مركزيا يحتوي على الرموز الأولية ويساهم في تنظيم المجتمع الذي ينتمي إليه. ولا يمكن للمجتمع أن يستمر بدون الدلالات المتخيلة التي ترتبط بالشبكة الرمزية للأشياء والأفعال، وتساعد على فهم طبيعة المجتمع والأسباب التي تجعله يختار هذا السلوك دون الآخر، وتمكننا من إدراك شكل ردود أفعاله والعلامات التي يبصر بها ذاته وعلاقاته بالغير”. (كاستورياديس كورنيلوس، 2003، ص 49).
إن الربط الذي أحدثه كستورياديس بين عملية التخيل وتنظيم المجتمع، هي نفسها الوظيفة التي تلعبها الأسطورة في علاقتها بالرمز والمجتمع، عند كلود ليفي سترواس وحتى عند رولان بارت. بحيث تؤدي عند الأول دورا إخباريا انعكاسيا يقوم به الذهن البشري، بينما تهتم عند الثاني ب “النظام المركز للصورة التي يقيمها المجتمع من أجل استمرارية ومصداقية معناها الموجود” (2 رولان بارت، 1996، ص247)، فعبر الأساطير واللغة ينتج الفرد شبكة من المعاني والرموز يشكل من خلالها تصورا عن الوجود ويضفي معنى عليه. ويصبح هذا التصور عبارة عن إيديولوجية عامة حاضرة ليس فقط في تمثلات الناس واعتقاداتهم بل حتى في ممارساتهم اليومية.
وعن علاقة الإيديولوجيا بالأسطورة، يحضرنا هنا مجموعة من الفلاسفة والمفكرين بالإضافة إلى كلود ليفي سترواس وبارت، ككارل ماركس وكارل مانهيام ولوي ألتوسير وبول ريكور. إذ يؤكد جلهم على أن تشويه الواقع وتزييف الحقائق هي من بين أهم وظائف الإيديولوجيا. فإذا أخذنا مثلا الفيلسوف المعاصر الفرنسي بول ريكور، نجده يرى هنا، بأن أي إيديولوجيا لها ثلاث وظائف تعمل بمستويات مختلفة وفق آليات التشويه والتبرير والإدماج. وعبر هذه الآليات الثلاث تنتج الإيديولوجيا الوهم والخداع والكذب. “يجب علينا أن ندعم بقوة الفكرة القائلة، ليس الوهم هو أكثر الظواهر أهمية في عمل الإيديولوجيا، بل هو فقط تشويه وفساد يصيب عملية التبرير بوصفها عملية متجذرة داخل الوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا”(بول ريكور، 1997، ص168).
لقد سبق لمشيل فوكو الكشف عن الأبعاد السياسية للصحة من خلال تفكيكه لاستراتيجيات السياسة الحيوية للعزل والاستبعاد، وحفره الجينالوجي في تاريخ السلطة والمعرفة الطبية كتاريخ إقصاء ونسيان، وتحديدا من خلال بحثه في تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، وفي الكيفية التي تحول بها الجنون إلا مرض وظاهرة شاذة وغريبة، في مختلف التصورات التي كانت سائدة بالمجتمع وفي صفوف العلماء. وقد انتقد فوكو هذه التمثلات التي كرسها الخطاب العقلاني في تناوله للمجنون كشخص فقد توازنه الطبيعي وأصبح بعيدا عن الإنسانية العاقلة، وبالتالي وجب إقصاؤه بدعوى أن الصحة والصواب يقاسان بمدى القرب أو البعد من العقل الكلي التي تحدد مبادئه ومعاييره الخاصة معنى الصحة والمرض ومعنى العادي والشاذ.
وفي تناوله لسيرورة الإقصاء والحيف الذي طال المجانين في القرون الوسطى باسم توليتارية العقل الكلي من النسيان، اعتبر أن الصحة والمرض ليستا حالتين ثابتتين وليستا من قضايا الحقيقة والواقع، بل يتشكلان باستمرار. وأن الجنون ما هو إلا تمثل اجتماعي لا يعكس حقيقة الجنون كما هو في ذاته. ف”الجنون لا يوجد إلا في المجتمع “، (ميشيل فوكو، 2001، ص 197) ومعنى ذلك أن الجنون ليس بخاصية أو كيان له وجود ذاتي، بل هو صناعة سوسيو-ثقافية تترسخ معاييرها وأحكامها في مختلف أشكال الوعي والممارسات التي تجعل منه عنصرا غريبا عن جسمها “الطبيعي” وتقضي بعزله وإبعاده بالنفي أو الطرد أو السجن أو النفي أو التطبيب. “إن العصر الكلاسيكي قد ابتدع دور حجز واسعة (vaste maisons d’internement) لغاية تدجين ظاهرة الجنون ولعزل أولئك الأفراد أي المجانين، من المجتمع كشريحة من الناس غير قابلة للتأقلم مع محيطها”(ميشيل فوكو، 2006، ص 70).
إن لعبة سيرورة الإقصاء عند ميشيل فوكو كانت خاصية الطب في العصر الكلاسيكي والعقلانية الحديثة التي حكمت على كل ما يخالفها بالإبعاد. وقد استمرت سيرورة الإقصاء هاته تفعل فعلها في المجتمع لنبذ وإقصاء كل ما هو غريب ومختلف. ولم تبق حبيسة المجانين فقط بل طالت المهمشين والفقراء والغرباء ومرضى الطاعون والجذام…، وبعد اختفاء مرض الجذام خلال العصور الوسطى، تولد شعور غريب، والسبب في ذلك حسب فوكو يعود إلى بعض الممارسات الطبية المشبوهة، وأيضا الفصل العفوي بين المرضى وغير المرضى، ونتيجة القطيعة التي حدثت بعد انتهاء الحروب الصليبية، مع البؤر الشرقية للعدوى. الملاحظ أن ميشيل فوكو يربط في العديد من صفحات كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، بين مرض الجذام وبين البؤر الشرقية للعدوى، التي يقصد بها دول الشرق الأوسط اليوم والعالم العربي. وفي نفس الآن نجده في أكثر من مرة يعتبر أن هذا العالم الذي نعته بكونه بؤرة للأوبئة، يعتبره قدوة الغرب في مجال العلاج الطبي. خاصة حينما أعتبر أن فكرة إنشاء مستشفيات تم استعارتها من العالم العربي الذي سبق الغرب بالكثير في هذا المجال. (ميشيل فوكو، 2006، ص 23-25).
المصدر: مركز معارف للدراسات والأبحاث