جمعية مدرسي الفلسفة تطلق ندوة تربوية عن “الفلسفة والعنف … إشكالات ومقاربات”
أكدت الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة فرع الصخيرات تمارة، أنها ستنظم ندوة تربوية رقمية حول “الفلسفة والعنف: إشكالات ومقاربات” وذلك بمشاركة ثلة من الأساتذة المختصين، وذلك بغاية المساهمة في كشف الموضوع من مختلف جوانبه. وأكد بلاغ إخباري للجمعية أن هذه الندوة تأتي في إطار البرنامج السنوي لأنشطتها الذي يروم إغناء المشهد العلمي والثقافي المحلي والوطني. وفي سياق خاص تميز بدخول المغاربة في الشهر الثاني من الحجر الصحي الذي تسببت فيه جائحة كورونا وما صاحبه هذا الحجر من تأثيرات على الفرد والمجتمع في مختلف جوانبه الاقتصادية والسياسية والثقافية.
وفيما يلي أرضية هذه الندوة، التي ستعمل “دابا بريس” على متابعة فعاليتها:
يعد موضوع العنف أحد الظواهر المجتمعية الأكثر استقطابا للاهتمام والتي قلما نجد مثيلا لها في درجة التصاقها بالأحداث ومدى تكرارها وكذلك انتشارها على مستوى المعمورة رغم تباين مظاهرها وتغير حدتها من حقبة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر.
يكشف العنف عن نفسه في كل سلوك يستند على استعمال القوة يوجهه طرف ضد طرف آخر بغاية إخضاعه لإرادته أو الحط من كرامته وإيذائه، إن العنف بما هو على حد تعبير بيار فيو أحد مؤلفي كتاب “العنف والمجتمع” العنف ضغط جسدي أو معنوي، ذو طابع فردي أو جماعي، ينزله الإنسان بالإنسان، بالقدر الذي يتحمله على أنه مساس بممارسة حق أقر بأنه حق أساسي، أو بتصور للنمو الإنساني الممكن في فترة معينة.
ومما لاشك أن مظاهر السلوك العنيف متعددة وكثيرة ومعقدة، بحيث يتعذر حصرها وتحديدها، فهو قد يتخذ شكلا ماديا مثل الضرب والجرح والتصفية الجسدية … وقد يتخذ شكلا رمزيا مثل السب والإشاعة وتشويه السمعة.. كما أنه سلوك قد يوجهه فرد أو جماعة أو دولة ضد مواطنيها أو جماعة ضد المجتمع كما أنه قد يكون موضوعا يطال المجتمع بأكمله في الحرب الأهلية.
إن مظاهر العنف كثيرة ومتنوعة فهي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وتتنوع بتنوع الظروف والسياقات وهذا التنوع وهذه الكثرة هما ما يجعل مفهوم العنف مبهما وإشكاليا ويدعونا بالتالي إلى التساؤل عن ماهيته (العنف) وأشكاله كما أن التلازم بين العنف والمجتمع يدعونا إلى التساؤل عن مدى مشروعيته وأحقية ممارسته؟
فهل يمكن اعتبار العنف حادث عرضي في مسار تطور الإنسانية، أم أنه يشكل خاصية مميزة لبنية الكائن البشري؟ وبمعنى آخر هل العنف مجر رد فعل يواجه به الإنسان تناقضات الحياة الاجتماعية والضغوط الممارسة عليه من قبل المؤسسات الاجتماعية التي تحاول باستمرار فرض منطقها وعقلانيتها الخاصة على الأفراد والجماعات؟ وبالتالي يمكن التخلص منه بعد القضاء على عوامل الثوثر وإنهاء الضغوط والقيود الممارسة على الناس إما من خلال الوصول إلى تحقيق درجة أعلى من التوافق والانسجام بين الإنسان ومحيطه نتيجة لعملية التطور الإيجابي والمستمر، الذي توفره المعرفة التي يحققها الإنسان حول نفسه ومحيطه. أو أن ثورة عارمة ستكنس أشكال الظلم والقهر والسيطرة التي تميز المجتمعات البشرية القائمة حاملة معها إنسانا من نوع جديد أكثر انسجاما مع نفسه ومع المجتمع الذي يعيش فيه.
أم أن العنف خاصية متجذرة في بناء الشخصية سواء أمكننا اعتباره أحد رواسب “الأصول الحيوانية للجنس البشري أم لا”. فإنه مع ذلك يبقى أحد أقوى الميول والغرائز لدى الإنسان بالرغم من إسهامه بشكل قوي في التحولات العميقة التي عرفتها المجتمعات الإنسانية على مر العصور. في هذه الحالة يصبح العنف ظاهرة تستعصي على المعالجة ويكون الاستئصال النهائي لها أمرا من قبيل التفكير الرغبي ويتحتم على الإنسانية العيش أو التعايش معه مستسلمة للأمر الواقع مثلما يتعين على شخص مصاب بمرض مزمن أن يتحمل آلامه ويصبر على مصابه.
من هذا المنطلق فإن كل مقاربة لموضوعة العنف في علاقتها بالمجتمع لن يكون الهدف من ورائها سوى التنديد بالعنف وإدانته باعتباره سلوكا يدمر إنسانية الإنسان ويقضي على التوازن والانسجام الاجتماعي للأفراد. وهو ما أوضحه فلاسفة العقد الاجتماعي وتحديدا صاحب الليفيتان (طوماس هوبز) عندما اعتبر أن الاجتماع البشري نتاج لتعاقد الأفراد من أجل التخلص حالة الطبيعة التي يطبعها العنف وانعدام الأمن والأمان، والتي يكون فيها الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان.
إن العنف يمثل انتصار الغريزة الشريرة على العقل والحكمة، هذه الأخيرة يفترض أنها نزعة ذات جذور راسخة في الإنسان. ومع ذلك فهو يمثل أحد السمات الأكثر ثباتا في الفعل الإنساني مما يجعل التنديد به وإدانته باسم الطبيعة الإنسانية الخيرة قبل القيام بتحليل عميق لأشكاله ودلالته وفهم أسبابه المتنوعة أمرا لا معنى له وبدون فائدة في نهاية الأمر.
مع تطور الحضارة الإنسانية وتشابك أشكال العلاقات بين الناس وتعقدها، تطورت أشكال العنف، إذ يمكن أن نتحدت عن عنف الملاعب وعنف الشوارع والعنف ضد النساء والعنف المدرسي والعنف الطائفي…. كما أن أدوات ممارسة العنف تطورت وازدادت تنوعا مع تطور التكنولوجيا مثل الأسلحة النارية والكيميائية والبيولوجية، والقنابل النووية والهيدروجينية والطائرات والصواريخ وآلات القتل الرهيبة وأجهزة التعديب… بل إن العنف يتجاوز اليوم دائرة العلاقات الإنسانية ويطال البيئة، بل ويمتد إلى الكوكب الأزرق بكامله. هذا هو عنف الإنسان ضد الطبيعة الذي يتجلى في تلويث الأرض واستنزاف خيراتها وطاقاتها وتهديد الحياة عليها…
وترتيبا على هذه الدلالات المعرفية والتاريخية لمفهوم العنف في علاقته بالوجود البشري، ارتأينا البحث والتنقيب في موضوع العنف من منظورات متعددة ومقاربات مختلفة، (فلسفية وسوسيولوجية وسيكولوجية..) قصد مساءلة العنف في تجلياته المختلفة داخل المجتمع.
وبما أن الدرس الفلسفي يعد من أهم المقومات المعرفية والقيمية التي تناهض العنف وتروم مواجهته ونبده بوصفه تهديدا للعقل وتغييبا للمعنى. فمنطلق وغاية الفلسفة، كما يرى الفيلسوف الألماني “إريك فايل”، وباعتبارها خطابا يتأسس على العقل والمنطق ويعتمد على الحوار كوسيلة، هو القضاء على العنف أو جعل اللاعنف هو ما يميز الحياة البشرية، وحتى وإن كانت بعض الفلسفات قد ارتأت استعمال العنف (ماكس فيبر) فذلك من أجل خلق حالة اللاعنف.
وإن كون العنف بمختلف أشكاله واقعا فعليا قائما يقتضي فهمه وتفسير آليات عمله، وذلك لمواجهته بما يحد منه ويقلل من فداحته، وفي هذا الإطار تستطيع الفلسفة أن تنير لنا الطريق، إذ التفلسف فعل أخلاقي في جوهره، ولذلك يعتبر العنف دائما تهديدا لقيم الحوار والاحترام نفيا للمعنى واغتصابا للكرامة وغيابا للمسؤولية أو نسفا للخطاب المتماسك وانتهاكا لقيم الاجتماع الإنساني مثل الحق والعدالة والسلام.