نوال السعداوي وحين قالت لفاطمة المرنيسي سنة قبل رحيلها…”يافاطمة؟ إن مثلك لا يموتون”
ذات ليلة سمعت الخبطات فوق باب بيتى بالجيزة، دهشت من يأتى لزيارتى دون موعد سابق إلا رجال البوليس؟ كنا فى نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات من القرن العشرين، أى منذ خمسين عاما وأكثر، وسألت من وراء الباب من هناك؟ وجاءنى صوت امرأة بلهجة مغربية تسأل: أهذا بيت نوال السعداوي؟
فتحت لها، قالت انها باحثة من المغرب اسمها فاطمة الميرنيسى تقوم بتدريس كتابى “المرأة والجنس” لطلابها فى جامعة محمد الخامس بمدينة الرباط، وأنها جاءت إلى مصر تحمل لى دعوة من الطلاب لإلقاء محاضرة بالجامعة، حدثتنى عن حماس الطلاب لكتابى الذى تعتبره هى ثورة فى مجال الفكر وقضية تحرير النساء، إذ أنه يقتحم، دون وجل، فى رأيها، المحظورات السياسية الاقتصادية الجنسية الثقافية الدينية فى بلادنا العربية، تحت نير النظام الرأسمالى الأبوى الاستعمارى الذى يحكم العالم شرقا وغربا.
كان هذا الكتاب، المرأة والجنس، قد نشر فى مصر قبل عام أو أكثر، لكن السلطات المصرية، السياسية الدينية أصدرت أمرا بمصادرته وجمعه من الأسواق، وانتشر رجال البوليس يجمعونه من المكتبات وأكشاك بيع الكتب والصحف على أرصفة الشوارع بالقاهرة والمحافظات، لكن تسربت أعداد منه خارج مصر، وتم إعادة نشره، سرا وعلنا. فى البلاد العربية، وفى بيروت، تحمست دور النشر اللبنانية لإعادة نشره وتوزيعه بكميات كبيرة فى بلاد العالم.
محاضرتى الأولى فى جامعة محمد الخامس بدعوة من فاطمة الميرنيسى جذبت الآلاف من الطلاب الذين تظاهروا فى الفناء ضد رئيس الجامعة، فقد أمر بإغلاق القاعة الكبيرة أمامهم، ولم يصرح لهم إلا بقاعة صغيرة، وغضب الشباب، وكسروا باب القاعة الكبيرة بأجسامهم، وكان يمكن أن تتحول المحاضرة إلى مظاهرة.
كانت فاطمة الميرنيسى تلقن طلابها الأفكار الثائرة ضد قهر النساء والاستبداد الرأسمالى الاستعمارى الأوروبى الأمريكي، وكانت كتبها تصدر بالفرنسية، ثم تترجم إلى لغات أخرى ومنها العربية. وأصبحت صديقتى على مدى نصف قرن وأكثر، شاركت معى وعدد من النساء من مختلف البلاد العربية فى تأسيس “جمعية تضامن المرأة العربية” فى بداية الثمانينيات من القرن العشرين، وما أن نشطت الجمعية وجذبت الآلاف من العضوات والأعضاء، ونظمت عددا من المؤتمرات النسائية الدولية، حتى أصدرت الحكومة المصرية قرارا غير قانونى بإغلاقها، وتطوع عدد من المحامين المصريين والعرب، لرفع قضية فى محكمة القاهرة ضد الحكومة المصرية، ولم نستطع أن نحصل على حقوقنا القانونية أبدا.
كانت فاطمة الميرنيسى أستاذة وكاتبة مبدعة، لها مؤلفات مهمة فى مجال تحرير المرأة، وكانت أيضا تقوم بتدريس كتبى لطلابها بحماس، وتدافع مع مواقفى حين أمر بتجربة السجن داخل مصر أو النفى خارجها، وكنا نلتقى كثيرا فى المؤتمرات الدولية داخل الوطن العربى وخارجه، ولا أنسى دفاعها عنى فى مؤتمر دولى بألمانيا خلال الثمانينيات من القرن العشرين، حين فصل الحبيب بورقيبة رئيس التليفزيون فى تونس بعد أن استضافنى فى حوار تليفزيوني، حيث تحدثت عن الحركة النسائية فى تونس. وعن المناضلات التونسيات، ولم أذكر اسم بورقيبة ضمنهن.
كان الابداع الأدبى والأفكار الثورية ضد الاستعمار والرأسمالية الأبوية، تجمعنى أنا وفاطمة الميرنيسى فى صداقة متينة، لكننا كنا نختلف فى بعض الأفكار، كنت ناقدة فى كتاباتى ومحاضرتى للفكر الطبقى الأبوى فى جميع الأديان، بما فيها الأديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام. قضيت عشر سنوات من عمرى أدرس الأديان وأقارنها بعضها بالبعض. وكنت أحترم أفكار فاطمة الميرنيسى الدينية والثقافية والفنية المختلفة عن أفكاري، بما فى ذلك عشقها للزخرفة وفن المعرض، والزينة الأنثوية، أذكر أنها تأملت وجهى ذات يوم وقالت: آه يا نوال، لماذا لا تتزينين؟ لو وضعت الماكياج والكحل لأصبحت ملكة جمال، وضحكت وقلت لها: لماذا أخفى وجهى بحجاب من المساحيق الذى لا يختلف فى نظرى عن الحجاب الديني؟ وضحكنا. وظلت كل منا تحترم الاختلاف فى مفهوم الأنوثة ومفاهيم أخري.
تلقيت آخر دعوة إلى بيتها بالرباط بشارع بين الودان. قبل وفاتها بعام تقريبا. كانت غاية فى الصحة والنشاط، وعقدت لى اجتماعا للحوار مع بعض الشخصيات المغربية من النساء والرجال، كان اجتماعا موحيا مفعما بالأفكار ومشاعر الحب أيضا. وحين أصبحنا وحدنا قلت لها أنت محبوبة فى المغرب يا فاطمة وكثيرون فى العالم تأثروا بك وبكتبك. قالت نعم، لكنى أصبحت عجوزا وأشعر أن الموت قريب مني. قلت لها: أى موت يا فاطمة؟ إن مثلك لا يموتون.