هذه الزاوية، التي وصلت اليوم حلقتها 22، توثق لكتابات صحافي عاش تجربة الصحافة الحزبية، وإن بطريقة نقدية وبكثير من المسافة عن الحزب، من خلال جريدة “النشرة” التي كانت الشبيبة الاتحادية قد أصدرتها، ورسمت لنفسها خطا مشاكسا للخط الرسمي للاتحاد الاشتراكي، ثم انتمى إلى تجربة أخرى، من خلال جريدة “الصحيفة”، التي انخرط عبرها في معركة بناء صحافة مستقلة وحرة، بعيدة عن جبه الأحزاب وألسنته المتعددة، الكابحة أحيانا لصياغة الخبر وصناعة الرأي العام المستقل، وبعيدة بنفس القدر عن سطوة إعلام السلطة.
في هذه الحلقات، تواصل “دابا بريس” نشر الافتتاحيات التي كان محمد حفيظ كتبها قبل عشر سنوات، بجريدة “الحياة الجديدة”، التي أصدرها بعد توقف “الصحيفة”، في إطار مواكبته لانتفاضات ما سمي إعلاميا ب”الربيع العربي” ونسخته المغربية التي أطلقتها “حركة 20 فبراير”، وتفاعله بالرأي والتعليق مع ما تلا ذلك من أحداث وتطورات…
وهي الحلقات التي نتعرف من خلالها على آراء ومواقف إعلامي حرص في تجربته الصحافية على اتخاذ المسافة عن الدولة، بنفس المستوى الذي اتخذها إزاء انتمائه السياسي والحزبي.
الحلقة 22: الترويج بالدين
هل كان ضروريا أن تُقْحِم الدولةُ المساجدَ في حملة الاستفتاء على الدستور؟ وهي تقوم بذلك، ألا تزج بالمسجد في معركة سياسية لا دخل له فيها؟ وفي الوجه الآخر للقضية، ألا تمارِس خرقا يمس بمصداقية الاستفتاء ونزاهته؟ ألا يحق لنا أن نتهمها باستعمال أدوات ووسائل محرمة في مثل هذه الاستشارات؟
يحق لنا أن نعتبر أن أخطر خرق شهدته الفترة المخصصة لحملة الاستفتاء هو ذلك الذي ارتكبته الدولة، من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حين هيأت هذه الأخيرة خطبة موحدة لصلاة الجمعة (24 يونيو 2011)، تدعو فيها إلى التصويت بنعم.
من أعطى لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الحق في استعمال منبر الجمعة واستغلاله للدعاية لموقف سياسي؟ الموقف من مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء موقف سياسي وليس دينيا. لكن خطبة الجمعة، التي تُلِيَت بمساجد المملكة يوم الجمعة 24 يونيو، أرادت أن تجعل منه موقفا دينيا. لقد عمدت إلى استغلال منبر الجمعة، لما له من سلطة دينية على عقول ونفوس المصلين، من أجل التعبئة لموقف سياسي، كلنا يعرف أن المواطنين ليسوا كلهم متفقين حوله أو مجمعين عليه.
إن خطورة تلك الخطبة المعممة على خطباء الجمعة تكمن في قولها لجموع المصلين الذين قصدوا المسجد لـ«ذكر الله»: إن «الإقبال على عملية المشاركة الفعالة في عملية الاستفتاء والاستجابة لذلك بقول نعم تأدية لشهادة مطلوبة شرعا». إن هذا الكلام الصادر من على منبر الجمعة يجعل كل مُقاطع للاستفتاء أو حتى مصوت بـ«لا» في موقع المخالف لقرار «مطلوب شرعا»، على حد تعبير من كتب الخطبة. أفلا يقترب مثل هذا السلوك من التكفير؟
لقد ألقى الملك خطابا لتقديم مشروع الدستور، وأعلن فيه أنه سيصوت عليه بنعم. وفتحت مختلف وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة والإلكترونية مساحاتها للتعبير عن المواقف من المشروع، مثلما كان الشارع العام ومختلف فضاءاته ميدانا لاحتضان التجمعات والمسيرات والوقفات والندوات… فلماذا يتم الزج ببيوت الله في موضوع سياسي يكتنفه الاختلاف؟ بل إنه لم يُطرح للاستفتاء إلا لأنه محط خلاف بين الفرقاء السياسيين.
إن الخطير في ما أقدمت عليه الدولة، عبر تعميم تلك الخطبة، هو أنه، من جهة، يمس بحرمة المساجد وبقدسيتها، ومن جهة أخرى، يمس، عن طريق الدين، بمبدأ التكافؤ بين مختلف الأطراف السياسية، وهو المبدأ الذي تقتضيه الديمقراطية. فيصبح الدين، هنا، وسيلة لإتيان عمل مرفوض، ماس بالدين، وأيضا بالديمقراطية.
خلال الأيام القليلة التي سبقت الإعلان عن مشروع الدستور، وبعد تسريب بعض ما جاء في المسودة التي صاغتها لجنة المانوني، «تفجر» نقاش حامي الوطيس اتخذ من «الهوية» عنوانا له. (أقول «نقاش» تجاوزا، لأن الخوض فيه تم، في الواقع، من طرف واحد، حرص على أن يظهر بمظهر المدافع عن الهوية المغربية، وبالأساس في بعدها «الديني»). لقد خاض الأمين العام للحزب الإسلامي المشارك، حزب العدالة والتنمية، معركة شرسة، لتغيير عبارة «المغرب بلد مسلم» بتعبير «المملكة المغربية دولة إسلامية»، حيث اعتبر أن في التعبير الأول مسا بالهوية المغربية والثوابت الدينية. وبينما ركنت بعض الأحزاب التي تدعي دفاعها عن مدنية الدولة إلى الصمت، تغيرت، وبسرعة فائقة ودون أدنى نقاش أو حوار، عبارة «البلد المسلم»، ليتم الإبقاء على العبارة القديمة «الدولة الإسلامية». لقد ظهر كأن الحزب الإسلامي هو الذي فرض «إسلامية» الدولة. غير أن هذه الواقعة، التي شهدتها مساجد المملكة، تأتي لتؤكد التوجه «الأصولي» للدولة؛ التوجه الذي يستعمل الدين في السياسة، حتى قبل أن يتم الترخيص بوجود حزب إسلامي في البرلمان أو في الحكومة.
ويبدو أن بنكيران لم يكن في حاجة إلى إطلاق تهديده ووعيده، لأن الدولة لا تدع أية فرصة تمر دون أن تُثبت أنها أكثر أصولية منه، بل إنها نابت عنه في استعمال المساجد لـ«الترويج الديني» للموقف الذي يدعو إليه في تجمعات حزبه، فأعفته من تهمة استعمال الدين في السياسة، التي طالما أطلقها ضده بعض خصومه الذين يتفقون معه اليوم في الموقف من مشروع الدستور. وربما لهذا السبب، التزم الصمت أمام هذه الواقعة، ولم يزبد أو يرغد، كما عودنا خلال التعبير عن مواقفه. ويمكن أن نتصور ما الذي كان سيقوم به، أمام استعمال الدولة للمساجد، لو كان موقف حزبه من الدستور مخالفا للموقف الذي تدعو إليه الدولة من على منابر الجمعة. وفي المقابل، أليس مثيرا أن يركن بعض «الحداثيين» الذين طالما هاجموا بنكيران وإخوانه بتهمة استعمال الدين في السياسة، إلى الصمت المطبق أمام هذا الاستعمال المشين لمنبر الجمعة؟
وأنا أنهي هذه الأسطر، علمتُ أن الأمر لم يقف عند خطبة الجمعة، بل تعداها إلى دروس الوعظ والإرشاد بالمساجد، بل أكثر من ذلك، إلى تجمعات للمجالس العلمية. هكذا، إذن، يتحول خطباء الجمعة والوعاظ ورؤساء المجالس العلمية إلى زعماء أحزاب يخوضون في الشأن السياسي. إنه اللعب بالنار، حين يتم خوض الصراع أو التدافع السياسي من مدخل ديني وليس من مدخل مدني.
30 يونيو 2011