إخباري تحليلي: كيف أجبرت حرب إسرائيل على غزة ومختلف ملاباستها إعادة ترتيب أولويات إدارة بايدن؟
فجأة وجد الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه مضطراً للتفرغ التام لملف لم يكُن من الأساس على أجندته، فكيف تسببت حرب إسرائيل على قطاع غزة في إعادة ترتيب أولويات الإدارة الأمريكية؟
وقبل الدخول إلى الكيفية التي تحولت بها نظرة الإدارة الأمريكية الحالية لملف الصراع العربي-الإسرائيلي، والتي دائماً ما كانت تحتل أولوية متقدمة في سياستها الخارجية، من المهم أن نذكر أن إدارة بايدن لم تضع الملف على أجندتها من الأساس.
والمؤشرات على هذه النقطة عديدة، أولها أن إدارة بايدن سعت منذ اللحظة الأولى لتوليها المسؤولية يوم 20 يناير لإلغاء قرارات الإدارة السابقة برئاسة دونالد ترامب والتي سببت- بحسب بايدن- ضرراً بالغاً للولايات المتحدة الأمريكية داخلياً وعلى المستوى العالمي.
وكان الملف الوحيد من ملفات الشرق الأوسط الذي نال نصيباً من اهتمام إدارة بايدن هو إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، بعد أن كان ترامب قد انسحب منه، وعلى مدى نحو أربعة أشهر من وجود بايدن في البيت الأبيض لم تظهر قضية الشرق الأوسط الأساسية- القضية الفلسطينية- على أجندة إدارة بايدن من الأساس.
كيف فاجأت حرب إسرائيل على غزة إدارة بايدن؟
ولم تعين إدارة بايدن- حتى الآن- سفيراً لها لدى إسرائيل ولا لدى السلطة الفلسطينية، كما لم تعين مبعوثاً خاصاً بالصراع العربي-الفلسطيني، وتأخر اتصال بايدن التقليدي برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إلى نحو شهر، في تجاهل للعرف المتبع بين الحليفين والذي ينص شفاهة على أن يتصل كل رئيس أمريكي برئيس وزراء إسرائيل في الأيام الأولى لتولي الأول منصبه.
وبالتالي يجمع الخبراء والمحللون داخل وخارج واشنطن على أن إدارة بايدن فوجئت بالحريق الذي أشعله نتانياهو أملا في البقاء في منصبه، ويرجع عنصر المفاجأة بالأساس إلى حقيقة أن اهتمام الإدارة الجديدة كان مُنصبّاً بشكل جوهري على الأوضاع الداخلية شبه المنهارة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وأن أي ملف في السياسة الخارجية لا ترى الإدارة أنه يصب بشكل مباشر في صالح أحد الملفات الداخلية ليس على رادار الإدارة على الأقل في عامها الأول.
وبالتالي وجد بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان أنفسهم في موقف أقرب إلى موقف المتفرج مما يجري على الأرض، وربما تكون تلك هي المرة الأولى التي تجد واشنطن نفسها فيها مضطرة لأن تطلب من حكومات المنطقة التدخل لتهدئة الأمور بعد أن بدا أن الولايات المتحدة قد فقدت نفوذها التقليدي بصورة واضحة في الملف الأهم في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن مقدمات الأزمة كانت واضحة للعيان منذ أبريل، عندما خطط نتنياهو لتسهيل تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح لصالح مستوطنين متطرفين يدعمونه، ثم تصعيد الاعتداءات ضد الفلسطينيين في ىاب العامود والمسجد الأقصى والقدس الشرقية بشكل عام، إلا أن تحرك إدارة بايدن كان غائباً تماماً أو هامشياً على أقل تقدير.
فقد أصدرت واشنطن بيانات بشأن ما يجري في القدس الشرقية، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس يوم الجمعة 7 ماي “ندعو المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى التحرك بشكلٍ حاسم من أجل تهدئة التوترات ووقف العنف”، وبعدها بيومين، نشر البيت الأبيض نص محادثة مستشار الأمن القومي جاك سوليفان مع نظيره الإسرائيلي، وقال فيها إنّ الإدارة لديها “مخاوف كبيرة بشأن الأحداث الجارية في القدس”.
تلك كانت بالطبع خطوةٌ صغيرة للغاية، إذ نشرت جمعية J Street، المناصرة لليبرالية والتي تُركّز على إسرائيل، بياناً يوم الإثنين 10 مايو/أيار- قبل ساعات من اندلاع الحرب- حثت فيه إدارة بايدن على “أن توضح للرأي العام أنّ جهود إسرائيل في إجلاء وتهجير الأسر الفلسطينية من القدس الشرقية والضفة الغربية غير مقبولة على الإطلاق بالنسبة للولايات المتحدة، كما هو الحال مع الاستخدام المتواصل للترهيب والعنف والقوة المفرطة ضد المحتجين والمصلين الفلسطينيين، خاصةً خلال شهر رمضان الكريم”.
بايدن الباحث عن المصلحة وليس المبادئ
لكن بعد أن خرجت الأمور عن السيطرة وأصبحت غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أهدافاً للنيران الإسرائيلية، وترد الفصائل الفلسطينية بمواصلة إطلاق صواريخها تجاه العمق الإسرائيلي، كانت كريستيان أمامنبور، المذيعة المخضرمة في شبكة CNN، قد وجهت سؤالاً لآرون ديفيد ميلر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، والذي شارك في مفاوضات السلام على مدى أربع إدارات أمريكية سابقة، حول ما يمكن لإدارة بايدن القيام به سعياً لتهدئة الأمور.
وجاء رد ميلر مباشراً، إذ قال ضمنياً إن إدارة بايدن لا ترى مصلحة أمريكية في الضغط على إسرائيل كدولة محتلة كي تحترم أبسط القواعد التي يفرضها القانون الدولي بشأن الاحتلال والتزاماته تجاه الأراضي والسكان المحتلين.
وقال ميلر: “السؤال هنا ليس إذا ما كان هناك أي شيء يمكن للولايات المتحدة أن تقوم به، بل السؤال هو هل الولايات المتحدة راغبة وتمتلك إرادة سياسية للقيام بذلك؟ والإجابة تتعلق بما يدور في ذهن الرئيس جون بايدن، وهذا ما أفصح عنه بالفعل مؤخراً، أو اقترب من الإفصاح عنه بشكل مباشر، عندما قال إنه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لا توجد أي قضية لها أولوية إلا إذا كانت مرتبطة بالقضايا المحلية الرئيسية التي تواجهها إدارته”.
واستطرد ميلر بالقول إنه في هذا الصدد تعتبر إيران قضية رئيسية، لأنها قد تتسبب في مواجهة ضخمة في المنطقة تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط واضطراب الأسواق المالية، ومن ثم إضعاف إحدى أهم أولويات الرئيس على الإطلاق، وهي تعافي الاقتصاد الأمريكي.
“وبالتالي السؤال هنا يتعلق بأين يقع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في قائمة أولويات بايدن؟ والإجابة أن هذا الصراع حالياً يقع في مرتبة متدنية للغاية في سلم الأولويات”.
لماذا إذاً تحول الموقف الأمريكي؟
الإجابة المباشرة على هذا السؤال تتعلق بما لم يحسب الأمريكيون في إدارة بايدن له حسابا- ولا الإسرائيليون ولا باقي القوى الإقليمية والدولية في حقيقة الأمر- وهو صلابة المقاومة الفلسطينية وقدراتها العسكرية من جهة وتوحد الفلسطينيين جميعاً داخل إسرائيل والأراضي المحتلة بصورة لم يتوقعها أحد، مما أدى لانقلاب المعادلة رأساً على عقب.
العنصر الآخر هو التحول في الموقف السياسي الأمريكي نفسه، وصعود التيار التقدمي الديمقراطي بزعامة بيرني ساندرز، وهو التيار الذي لا يقدم دعماً غير مشروط لإسرائيل ويرى أن الحل الوحيد لإقرار السلام هو حل الدولتين وحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة.
ومن هذا المنطلق بدأ بايدن وإدارته في السعي للضغط على نتنياهو لوقف إطلاق النار منذ الثلاثاء الماضي، وكشفت أحداث اليومين الماضيين وصولاً إلى وقف إطلاق النار بالفعل فجر الجمعة 21 مايو عن فقدان واشنطن نفوذها التقليدي لدى أطراف الصراع، وبالتالي اللجوء لمصر وقطر للتوسط بين حماس وإسرائيل لوقف إطلاق النار، وهو ما حدث.
زيارة بلينكن لإدراك ما يمكن إدراكه
وهكذا انقلبت الأمور رأساً على عقب بين ليلة وضحاها، فخلال أسبوع واحد أجرى بايدن 6 اتصالات مع نتنياهو- اتسمت بالتصعيد التدريجي وصولاً إلى مكالمة الأربعاء 19 مايو/أيار التي طالب فيها بايدن بلهجة حادة من نتنياهو أن يوقف الحرب على غزة.
وبعد نجاح الوساطة المصرية، أجرى بايدن اتصاله الأول بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ليشكره على نجاح جهود الوساطة المصرية، ونتوقف هنا عند بيان بايدن نفسه بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار.
قال بايدن: “أعتقد أن الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء يستحقون أن يعيشوا في أمن وأمان وأن ينعموا بدرجات متساوية من الحرية والازدهار والديمقراطية”، وأضاف: “ستواصل إدارتي دبلوماسيتنا الهادئة الراسخة لتحقيق هذه الغاية. وأعتقد أن لدينا فرصة حقيقية لإحراز تقدم وأنا ملتزم بالعمل على ذلك”.
والآن يستعد وزير خارجيته أنتوني بلينكن لزيارة الشرق الأوسط خلال الأيام القليلة المقبلة لمناقشة القضية الإسرائيلية الفلسطينية وإجراء محادثات مع عدة أطراف، بحسب بيان صادر عن نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية.
وقال برايس إن بلينكن تحدث هاتفياً مع نظيره الإسرائيلي غابي أشكينازي، الذي “رحب بالرحلة المرتقبة للوزير بلينكن إلى المنطقة”، وتابع قائلاً: “حيث سيلتقي وزير الخارجية في الأيام المقبلة نظيريه الإسرائيلي والفلسطيني ونظراء إقليميين للتباحث معهم في جهود التعافي، والعمل سوياً على بناء مستقبل أفضل للإسرائيليين والفلسطينيين”.
كما اقترب بايدن من اختيار سفير لواشنطن في إسرائيل قد يكون توماس نايدس وهو نائب سابق لوزارة الخارجية في إدارة الرئيس الأسبق أوباما وشغل منصب القنصل الأمريكي لدى إسرائيل والسلطة الفلسطينية من قبل، بحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي.
الخلاصة هنا هي أن إدارة بايدن تجاهلت الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط، على الأرجح اعتقاداً من مسؤوليها أن سياسة ترامب الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل خلال السنوات الأربع الماضية قد أنهت القضية الفلسطينية وأعطت إسرائيل كل شيء وانتهى الأمر، خصوصاً بعد أن قادت الإمارات حملة التطبيع المجاني مع الدولة العبرية، وبالتالي لا يوجد مبرر لإعطاء الملف أهمية تذكر.
لكن الانتصار غير المتوقع للمقاومة الفلسطينية على إسرائيل في هذه المعركة قلب الأمور رأساً على عقب وأعاد القضية الفلسطينية إلى المرتبة الأهم في أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن.
المصدر: رويترز ووكالات