إدموند هوسرل: يرسم بورتريه للفيلسوف إنه بحث دائم عن بداية جديدة وحياة علمية جديدة وراديكالية فعلاً
“إنه لا يريد كفيلسوف أن يكون شيئاً آخر غير رجل علم، لكنه رجل علم حقيقي وراديكالي، ولا يحركه سوى حب الحكمة…”.
في المحاضرة التاسعة والعشرين من كتابه”فلسفة أولى”يرسم إدموند هوسرل بورتريه لما يسميه بالفيلسوف الراديكالي.
يجد القارئ نفسه أمام خطاب وثوقي أشبه بوصايا لقمان لابنه. محاضرة نفسها ديني ونغمتها توراتية، وإن اكتست لبوس الفلسفة.
لكن من وما الفيلسوف بالنسبة الى هوسرل؟ إنه أولاً ذلك الذي يجرؤ على اجتراح بداية جديدة. وبلغة أخرى، ذاك الذي لا يستسلم لما هو كائن وينشد ما يجب أن يكون.
وحتى العلوم الحقة في نظر هوسرل، وعلى رغم منهجيتها النقدية،
إلا أنها كثيراً ما تتجاهل قراءة مقدماتها أو معطياتها قراءة نقدية. إن الفيلسوف وفقاً لرؤية هوسرل هو العالم الأكثر راديكالية. لكن هذه الراديكالية هي من ستدفع هوسرل وكل الاتجاه الفينومينولوجي إلى طريق مسدود، ولنتذكر في هذا السياق مشكل البيذاتية. فالخطر كل الخطر على الحياة يأتي من الراديكاليين، أولئك الذين لا يحسنون العيش في عوالم مختلفة، والذين لا يجرؤون على قول نعم للواقع.
لكن لنصغ قليلاً لما يقوله هوسرل عن الفيلسوف.إنه يبحث في نظره عن بداية جديدة وحياة علمية جديدة وراديكالية فعلاً. إن الفيلسوف لا يمكنه إلا أن يكون مطلقاً، إنه الابن الشرعي للمطلق”وهذه الراديكالية المطلقة تعني لمن يبغي أن يصبح فيلسوفاً بهذا المعنى اتخاذ قرار حياتي مطلق وراديـكالي، بحيـث أن حياته سترتبط من هنا فصاعداً برسالته”كفيلسوف”وبها فقط”، إلى درجة أن الفلسفة ستغدو الهدف الأسمى لحياته.
هدف يسكن دواخل الفيلسوف ولا يفارق أحشاءه”وكل ابتعاد له عن هذا الهدف، ابتعاد عن ذاته، نوع من الخيانة للذات”. إن كل مهنة اختيرت بحرية تتضمن بداخلها هدفاً أسمى، يقول هوسرل، وهو ما يعني بالنسبة للذات التي تمارس هذه المهنة أن تتماهى مطلقاً مع هذا الهدف. لكن مع ذلك فإن هوسرل يفرق بين المهنة كما نعرفها في حياتنا اليومية وبين أن يكون المرء فيلسوفاً، لأن الفيلسوف يعمل على الأفكار المطلقة والمحضة، وبيت الفيلسوف وفقاً لهذه النظرة ذاتها لا العالم. إنها النظرية أو حب النظرية.”حب لا نهاية له”،”حب للانهائية الحب”،”حنين لا نهائي…”لا لحم ولا دم لهما.
تحويل هذا الحب إلى واقع، قضية الفيلسوف الأولى وما يجعله يصل في نهاية المطاف بحسب هوسرل إلى إسعاد نفسه بنفسه. إنها”سعادة خالصة”، سعادة لا جسد لها وقد تكون لها روح، أو كما يقول هوسرل:”تحقيق للذات في الروح والحقيقة”. إن هوسرل يستعمل الفعل الألماني:
Sich selbst befriedigen
إسعاد الذات لذاتها عبر ذاتها، تلك نتيجة القرار الراديكالي، قرار اجتراح بداية جديدة، قرار رفض العالم في”الايبوخي”الاختزال الترنسنذنتالي. إنها سعادة روحية، أو القدرة على أن أسعد نفسي بنفسي. وقبل أن أشير إلى الأعراض المصاحبة لهذا التطور من”العالم”إلى”الأنا”أو بالأحرى إلى”الأنوية”، أشير بدءاً إلى أن هذا الفعل الألماني مرادف في الألمانية لفعل الاستمناء والمستمني مكتف بجسده، لا يحتاج إلى جسد آخر الآخر لتحقيق الإشباع الجنسي. إن الرؤية النظرية إلى العالم رؤية راديكالية، لكنها راديكالية لا تحتمل أكثر من رفض العالم، ولذلك فهي رؤية لا تحتاج إلى الآخرين بل لا تحتاج إلى جسد.
إن هوسرل يغفل عن الحقيقة البديهة التي رافقت تاريخ الفلسفة والتي تقول إنها ابنة المدينة، وأن الفلسفة تفكير في المدينة وليست ابنة للنظرية. لقد كان سيوران على حق حين حذرنا من عزلة الفيلسوف وانطوائيته. أما راديكالية الإرادة التي يتحدث عنها هوسرل فهي في النهاية راديكالية إرادتي أنا الأنا ضد الآخر/ العالم. كل”أنا خالدة”، أنا الفيلسوف بحسب هوسرل، هي أنا مريضة بالغربة عن الواقع، إنها مريضة بنفسها.
إن راديكالية الفيلسوف اليوم، الذي يعتبر نفسه ابناً للمدينة، لآمالها وآلامها، تكمن في غيريته وقدرته على تجاوز جدران الذات النظرية وتنشق رائحة العالم حتى وإن كانت رائحة تزكم الأنوف أحياناً. إنها القدرة على استبدال الفلسفة بالغيرية، ففي خروجنا الراديكالي إلى العالم، نتجاوز الفلسفة ونتحقق كأخلاق، كبشر من لحم ودم.