
لم يحتج الأمر إلى إعصار أو فيضان تاريخي كي ينكشف المستور، بضع ايام من الأمطار الرعدية، تراوحت بين 20 و40 ملم بحسب معطيات المديرية العامة للأرصاد الجوية، كانت كافية لتحويل شعاب الجنوب الشرقي ( ورزازات، زاكورة، تنغير) ومعها دواوير آيت بوكماز وآيت عباس بأزيلال، إلى مسرح لسيول جارفة وطرقات مقطوعة وحقول مدمَّرة، في مشهد يلخص الفجوة الصارخة بين صورتين للمغرب: مغرب البنية التحتية الفارهة والسرعة الفائقة، ومغرب آخر يغرق عند أول بركة ماء.
أمطار عادية.. كارثة محلية
يفترض في منطق التنمية المتوازنة، أن تكون مثل هذه التساقطات مجرد اختبار عابر للبنية التحتية، لكن على الأرض، تحولت الأمطار “العادية” إلى كارثة اقتصادية واجتماعية.. حيث عزلت المياه مئات الأسر، في دواوير أزيلال، وأتلفت محاصيل تمثل مصدر العيش الوحيد للمزارعين، فيما توقفت حركة السير على مقاطع طريق تيشكا الحيوية بين ورزازات ومراكش.
التفسير بسيط وصادم: ضعف شبكات تصريف المياه، انهيار عدد من المسالك الطرقية والسدود التلية نتيجة عدم اكتمال أشغالها أو ضعف جودتها، و تآكل الغطاء النباتي، وانحياز الاستثمارات نحو المشاريع الضخمة بدل تجهيزات الحماية المحلية.
النتيجة؟ كل زخة مطر تتحول إلى فاتورة يدفعها الفقراء من جيوبهم، بينما تُصرف المليارات على مشاريع لا تمس حياتهم اليومية.
“مغرب السرعتين” تحت المجهر
فيما تكشف الأرقام الرسمية المفارقة: حيث تُرصد عشرات المليارات من الدراهم لتشييد طرق سريعة وخطوط قطارات فائقة السرعة، لا تتجاوز ميزانيات صيانة وتأهيل المسالك القروية في بعض الأقاليم بضعة ملايين، بالكاد تكفي لترقيع الأضرار بعد الكوارث، ووفق معطيات وزارة التجهيز لسنة 2024، فإن أقل من 15% من الطرق القروية المعبدة تتوفر على قنوات تصريف مائية فعّالة، بينما تغيب هذه الشبكات بالكامل عن مئات الكيلومترات من المسالك الترابية.
هذا الخلل البنيوي يجعل من “مغرب السرعتين” حقيقة محسوسة: عناوين براقة عن إنجازات كبرى، في مقابل قُرى تُعزل عن العالم مع أول تحذير جوي، و ربما نعث بالتحدير نظرا لهشاشة الوضع لا لي خطورته.
أصوات من الميدان
“لسنا ضد التنمية، لكننا نريد تنمية تحمينا من الموت غرقاً قبل أن تفكر في ربطنا بخط القطار السريع”، هكذا يعلق أحد سكان تنغير، ملخصاً شعوراً جماعياً بالخذلان.. وفي تصريح سابق لمسؤول محلي في أزيلال، أقرّ بأن “الأمطار الأخيرة لم تكن استثنائية، لكن البنية التحتية الضعيفة حولتها إلى أزمة إنسانية واقتصادية”.
دروس من السماء
المطر الأخير لم يُسقط الامطار على الجنوب الشرقي للمغرب فقط ، بل أسقط القناع عن نموذجٍ تنموي يترك نصف البلاد في الهشاشة.. و بينما يواصل “مغرب السرعة الفائقة” السباق نحو مشاريع المليارات، يعيش “مغرب البطء القروي” في انتظار شاحنة إغاثة أو قنطرة مؤقتة.. ، و ما لم تتغير أولويات الإنفاق العام، سيبقى الطقس لا السياسة هو الحكم النهائي الذي يحدد من يعيش في الضفة السريعة ومن يعلق في الوحل.