منع الفيلمين “العربي بن مهيدي” و”بابيشا”..تعددت الأسباب والمقص واحد..الرقابة الدينية والسياسية تقمع السينمائيين الجزائريين(فيديو)
لا يزال الرقيب الجزائري ينوع العباءات التي يرتديها، وفق الزمان والمكان اللذين تقتضيهما أحادية الفكرة وقبضة السلطة، التي لا تزال تقمع الرؤية الأخرى، مرة تحت مسمى حماية التاريخ والذاكرة الوطنية من التشويه، ومرة بعنوان رعاية الدين، ولذلك لا يزال الفيلمان السينمائيان “العربي بن مهيدي”، و”بابيشا”، ممنوعين من العرض في دور العرض المحلية.
غاب الفيلم السينمائي التاريخي “العربي بن مهيدي” للمخرج والمنتج المغترب بشير درايس، عن الاحتفالية السنوية بعيد الاستقلال الوطني الجزائري المصادف للخامس من يوليو، لتتكرس بذلك يد الرقيب التي لا تزال ظلها يخيم على العمل الضخم الذي استغرق خمس سنوات واستهلك أكثر من خمسة ملايين دولار.
ورغم انتشاء السلطة بما أسمته “الإنجاز التاريخي”، الذي حققته بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ58 للاستقلال، بعدما استعادت رفات 24 من قادة ثورات المقاومة الشعبية، الذي كان محتجزا في متحف الإنسان بباريس، إلا أنها لم تشأ رفع يدها عن فيلم “العربي بن مهيدي”، وعرضه في المناسبة التاريخية الرمزية، الأمر الذي يوحي باستمرار قبضة الوصاية.
مقص الرقيب
رغم التسريبات التي صدرت بتوصل مخرج العمل والسلط الرسمية إلى صيغة توافقية، واستغلال الاحتفالية لعرض الفيلم لأول مرة منذ إنجازه في 2018، إلا أن المواقف لا تزال في مربع الصفر، فالحكومة الممثلة في وزارة الثقافة ووزارة المجاهدين (قدماء المحاربين)، لا تزال متمسكة بضرورة إعادة تركيب مشاهد الفيلم وقص ما ورد في تحفظاتها الأولية.
في حين يتمسك مخرج ومنتج الفيلم بشير درايس، بالنسخة النهائية لفيلمه، ويصر على أن الفن هو “وسيلة للاجتهاد في تقديم القراءات المستحدثة، وتسليط الضوء على نقاط الظل، ولو كان ذلك متعارضا مع الرواية الرسمية التي يسوق لها في الدوائر الرسمية”.
وفيلم “العربي بن مهيدي” يسلط الضوء على حياة ومسيرة القائد والمناضل التاريخي العربي بن مهيدي، الذي يعد من الأعضاء الستة الذين قرروا تفجير ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي في الأول من نوفمبر 1954، ويوصف بـ”حكيم الثورة”، وأراد المخرج بشير درايس، إبراز بعض التفاصيل المهمة في حياة الرجل، لاسيما تلك المتعلقة بالخلافات الفكرية والأيديولوجية بين قادة الثورة، وجرأته على انتقاد القائد البارز ورفيقه في المسار والرئيس الأول للجزائر أحمد بن بلة.
ويحتل القيادي الثوري والمناضل التاريخي محمد العربي بن مهيدي، رمزية خاصة في الذاكرة الوطنية للجزائريين، فهو صاحب المقولة الشهيرة “ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”، وهو الذي قال عنه الجنرال الفرنسي الماريشال بيجار بعد أن يئس من تعذيبه دون أخذ اعتراف منه “لو أن لي ثلة من أمثال بن مهيدي لغزوت العالم”.
وفي المقابل تحفظت السلطة على الكثير من المشاهد والروايات، وطلبت من المخرج عملية تركيب ثانية، وصفها المخرج بـ”نسخة ثانية للفيلم”، على اعتبار أن التحفظات مست أكثر من أربعين مشهدا، بينما اعتبر وزير الثقافة السابق عزالدين ميهوبي أن “الدولة لا تمنح الأموال من أجل تشويه التاريخ”، في إشارة إلى تمويل وزارتي الثقافة والمجاهدين وبعض الشركات الحكومية للفيلم.
ولا تزال السينما الثورية في الجزائر رغم نجاحها الفني منذ مطلع الاستقلال، حبيسة الرواية الرسمية للتاريخ النضالي رغم الجدل القائم بشأن العديد من نقاط الظل، وإذ يبقى فيلم “وقائع سنين الجمر” للمخرج محمد لخضر حامينة، الفيلم الجزائري والعربي الوحيد الذي حاز على السعفة الذهبية لمهرجان كان العام 1975، فإن مقص الرقيب طال العديد من الأعمال السينمائية بسبب محاولة أصحابها تقديم رؤية مغايرة للرواية الرسمية، كما هو الشأن بالنسبة لفيلم “الوهراني” الذي طالته موجة من الانتقادات والسخط من قبل قطاع عريض مما يعرف بـ”الأسرة الثورية”.
ولا تستبعد المواقف السياسية لشركات الإنتاج والمخرجين من قرار منع العرض، وهو ما لمح له كل من بشير درايس مخرج فيلم “العربي بن مهيدي”، ومونيا مدور مخرجة فيلم “بابيشا”، حيث ظهر الأول معارضا لنظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، ثم لم يتوان في التعبير عن تعاطفه مع الحراك الشعبي، بينما تحول الثاني إلى قضية في شكل شعارات وهتافات رددتها الاحتجاجات السياسية.
وفيما ينص قانون السينما لعام 2011، الذي وضع إنتاج الأفلام المرتبطة بالثورة الجزائرية تحت سطوة ورقابة الحكومة، على “ضرورة إخضاع جميع الأفلام التي تتعلق بثورة التحرير ورموزها لموافقة مسبقة من الحكومة”، فإن مهتمين بالشأن السينمائي في الجزائر يذكرون بأن فيلمي العربي بن مهيدي وبابيشا، يدفعان ثمن مواقف أصحابهما من السلطة بشكل عام.
الرؤية الأحادية
يرى محمد العربي مرحوم، أحد أفراد عائلة الشخصية التاريخية، أن “الفيلم رائع من الناحية التقنية والتاريخية، وأن جودة العمل وقيمته لا يضاهيها أي عمل سابق، حتى يخال للمشاهد أن الفيلم أنجز في استوديوهات هوليوود، ومن طرف كبرى شركات الإنتاج العالمية”.
وأضاف “مشكلة الفيلم أنه تناول المسكوت عنه بالتعرض للمواقف السياسية في حياة البطل الرمز، في حين أن وزارة المجاهدين تريده فيلما دون روح، من خلال التركيز على المشاهد المستهلكة والمكررة في السينما الثورية التي دأبت السلطة على إنتاجها في سنوات مضت”.
أما المخرج والمنتج السينمائي العربي لكحل، الذي يملك فيلمين محظورين في الجزائر منذ العام 2016، فقد أكد أنه “مثله ومثل بشير درايس يدفعان ثمن مواقفهما السياسية”.
ويرى أن “الحكم على الأعمال السينمائية وجودتها ليس من صلاحيات اللجان المتخصصة، بل هو أمر يفصل فيه المشاهد، وأي عمل فني غير ملزم بأي قراءة رسمية للتاريخ بقدر ما يتطلب منه التقيد بجماليات الإبداع السينمائي، مما يدعو إلى تحرير السينما عموما والأفلام الثورية تحديدا من تأشيرة ووصاية وزارة المجاهدين”.
وغير بعيد عن ذلك يستمر منع فيلم “بابيشا” للمخرجة مونيا مدور من العرض في الصالات الجزائرية، لأسباب غير محددة حسب مخرجته وبطلته، التي صرحت لوسائل إعلام فرنسية “لا يوجد سبب رسمي إلى حد الآن لمنعه، لكنني سعيدة جدا أن الشباب الجزائريين وجدوا فرصة لمشاهدة الفيلم، حتى لو كان ذلك عن طريق القرصنة، لأن المهم بالنسبة إلي هو رأي الجمهور”، في إشارة إلى محتجين من الحراك الشعبي أبدوا تعاطفا صريحا مع العمل المذكور.
لا تزال السينما الثورية في الجزائر رغم نجاحها الفني منذ مطلع الاستقلال، حبيسة الرواية الرسمية للتاريخ النضالي
لكن الراجح أن يكون الرقيب قد ارتدى عباءة صيانة الدين لمنع الفيلم من العرض، على اعتبار أن العمل قدم رؤية ناقدة للتطرف الديني الذي جر البلاد إلى عشرية دموية، عاشتها المخرجة والبطلة بحواسها ومشاعرها، فضلا عن تعاطفه مع “ثورة الابتسامة” التي فككت سطوة العنف لدى أدوات السلطة طيلة أكثر من عام.
وحقق الفيلم الذي استغرق إنتاجه ست سنوات، نتائج مشجعة بعد دخوله في مسابقة جائزة أفضل فيلم أجنبي بجائزة الأوسكار للعام الحالي، وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان الجونة، كما حقق اهتماما إعلاميا غربيا بعدما عرض في 155 قاعة بباريس وعدد من المدن الفرنسية، خاصة وأنه يعد من الأعمال القليلة التي اهتمت إلى حد الآن بالعشرية الدموية في الجزائر (1990 – 2000)، إلى جانب الوصول إلى قائمة “نظرة ما” في مهرجان كان وجوائز أخرى في مهرجان الفيلم الفرانكفوني بأنغوليم.
وصرحت مونيا مدور بأن “الفيلم كان طريقة للشفاء من العنف والخوف الذي زرع فيها خلال تلك الفترة، فالسينما، والفنّ، والوقت، كانت عناصر جعلتها تتعلم التريث ومراجعة الذات، كما أن 15 سنة من العمل في السينما وخمس سنوات لكتابة الفيلم، كانت كافية لتنتجه ويكون بمثابة شفاء لها من ذلك الخوف”.
وعن تعاطفها مع الحراك الشعبي، ذكرت أن “ثورة الابتسامة سُميت كذلك لأنها تمثل شعبا مسالما وشبابا يطمح للحرية بكل حضارة وسلمية، وإن للمرأة دورا فعالا وثوريا في هذه المظاهرات، وإنني أتابع الحراك بكل ترقب وبالكثير من الأمل”، وهو التصريح والموقف اللذان قد يكونان أثارا غضب الرقيب ومن خلفه سلطة ترفض التغيير في البلاد، وحالا دون عرض فيلمها المثير في الجزائر.
أما الممثلة لينا خودري، فقد قالت لتلفزيون فرنسي “إن الفيلم لم ينتقد الإسلام كديانة، لأن الأديان في حد ذاتها جميلة، وإنما ينتقد التطرف والمتطرّفين الذين يستغلونه، فالبطلة تربت في عائلة مسلمة وتراها تنطق الشهادتين، لكنها ثارت وناضلت ضد هذا النوع من القيود الذي فرضته الجماعات المتطرفة”.
فيلم “بابيشا”، وهو لفظ شعبي يطلق في الجزائر على الفتاة الجميلة والأنيقة، استعرض حياة طالبة جامعية خلال العشرية الدموية التي أفرزت تحولات أيديولوجية واجتماعية كبيرة، وقدم حياة المرأة في المجتمعات المتطرفة، ففيما سلك الجميع خاصة الرجل سبل التماهي مع المرحلة، إلا أن بطلات الفيلم فضلن النضال والاستمرار والصمود في وجه العنف والتشدد والدموية.
المصدر: العرب اللندنية