حورية الشريف حوات.. الكائن الشفيف الذي غادرنا!
لم أر حورية يوماً متأففة من إنزالاتنا تلك المبرمجة منها والحاصلة على حين غفلة
أن تكتب عن حورية ليس بالعملية السهلة. مسار حياة متميز. تجربة حياة متنوعة وثرية. كيف تقمش تفاصيلها في صفحات؟ وتزداد صعوبة المهمة عندما يكون هذا المسار وهذه التجربة متصادية، بل ومتماهية، مع مسار وتجربة رفيق عمرها العزيز محسن عيوش. ولأنني أقدر حقاً هذه الصعوبة، فلا يسعني سوى أن أذكر ما علق بذهني وهو قطعاً قليل من كثير، وأعتذر إن لم أف الفقيدة مكانتها الكبيرة التي تحوزها في حوبائي. ولقد أجزت لنفسي سرد تفاصيل من حياتنا المشتركة إلماعاً لقسط من تجربة مناضلين انشدوا كالغراء إلى حلم جماعي وأخلصوا له إلى حين..
متى تعرفت إلى حورية؟ أحسب أن عنصر الزمن لا قيمة له في هذا الباب. لكأني أعرفها منذ وقت طويل، سيكون حساب سنواته، من قبلي، محض هراء. عبثاً أفعل إن حددت سنة بعينها، وقناعتي أن ثمة أشخاصاً يعبرون حياتك، يتأبون عن تأطير زمني ما على نحو ما يحكى عن تلك الكائنات الخيميائية التي لا تطاوع الوقت في سيلانه الديمومي؛ أشخاص عابرون للزمان. أقول إنه في سنوات السبعينات من القرن الفائت كان لي الحظ الوفير في التعرف على (وإلى) حورية. بفاس؟ ربما. ولعله بالرباط. لا أتذكر. لم أعد أتذكر. حقاً لا أتذكر.
في دافن مرأب لفيلا تقع بشارع الغزالي بحي الليمون بالرباط، على بعد أمتار من مقر أ.و.ط.م بزنقة لافوزييه (زنقة أبي شعيب الدكالي)، وبمثلها من سفارة كوبا، أقمت لأوقات متقطعة ومتواترة رفقة حسن السوسي مع محسن وحورية.
حوّل محسن المرأب إياه إلى موضع يليق، إلى حد ما، بالسكن. كان يأوي إليه رفقة زوجته حورية. وكانا قد انتقلا إلى الرباط بغاية استكمال دراستهما بكلية الحقوق.
حورية بشعبة الاقتصاد فيما محسن بالسلك الثالث علوم سياسية. كان المأوى ذاك مقر اجتماعات حزبية، وكنا نؤمه نحن أفراد الخلية أيضاً كيفما اتفق. وبه نقضي ليال وأياماً. وفي أوقات كان يصير قفير نحل، إذ يأتيه بعض الطلبة من تنظيمنا_ أظن أن الانتقاء جرى فيهم بما يقي المكان من تربصات البوليس_ فترى هذا يكتب وذاك يطوي وآخر يدبر. الإعداد للمؤتمر السادس عشر لأ.و.ط.م استدعى اختلاطا للمناضلين. رفاق تعرفوا علي ساعتها كما تعرفت بدوري على بعضهم ومن ذلك عدنان الجازولي وخديجة اليوسفي..
كانت حورية نسغ تلك اللقاءات وسمادها. تتحرك في كل الأركان والمواقع. كيف كانت تتطيق شغبنا وانحشارنا جميعنا في غرفة طولانية وحيدة استوى في عمقها فراش لشخصين بينما تزنرتها أفرشة أرضية معدة للجلوس والنوم في الآن ذاته؟ ماذا نسمي هذا الاقتحام المتواتر من قبلنا، وفي الغالب الأعم يتم على حين غرة، إن لم يكن هجوماً على خصوصية الزوجين وحميمتهما! كنا عزاباً بعد وكان محسن وحورية الوحيدين بيننا ممن باكرونا إلى الزواج. الارتباط الذي جمع بينهما بفاس، وصار نسيج حب وود حرصا معاً، رغم المحن والأعاصير التي صادفتهما، على الاستمرار في حبك خيوطه بدأب وبترو وأصالة وبدون كلل لأزيد من أربعين سنة، تماما مثلما تنتسج السرديات الكبرى حكاية تتلوها حكاية.
ومن ذلكم المأوى أيضاً كنا نقصد في مساءات فارزة مطاعم شارع الحسن الثاني قبالة حي ديور الجامع، والأحكم، أننا كنا نروم مطعماً بعينه هو “مطعم الشباب” إن لم تخني الذاكرة.
كان محسن قد ألف طلبية محددة هي عبارة عن وجبة مخ مشرمل في الغالب. وبعد حين، زاحمنا الرجل في وجبته المفضلة تلك. كانت حورية تجارينا في طلبياتنا حتى وإن لم تكن تفهم، لربما، لمَ نحن الرفاق نستكثر على الزوج الانفراد بالوجبة إياها؟ كنا نمضي ساعات من المرح لا توصف. ننفق ما تحصّلناه من ريالات بهذا المطعم، وما فضل نصرفه في كؤوس قهوة سادة أو “مْهَرْسَة”. وفي الذهاب والإياب كنا نجهد في تجنب قفشات محسن.
يقشف الرجل بينما تواطئه حورية، في العادة، المجرى والأجواء. وبالواقع، ألفنا طعم هذه القفشات وباتت لنا مُسلى وسبيلاً نحو ترويض هجنة الوقت وأثقاله وفسولة ذات اليد.
عشنا أيامَ حمل حورية. عشناها بجوارحنا. عشنا فرح المرأة بحملها وآلامه الكابسة وعاينّا تبدلات جسدها الصغير.
شاهدنا المرأة تمشي بيننا بتؤدة، وهي تداري آثار الحمل، ثمّ وهي تمسد باليد على بطنها كما لو كانت تطبطب بتحنان على رأس وليدتها.
وعندما أنجبت كانت فرحتنا بالوليدة “ندى” تكاد تضاهي فرحة أبويها. حصدت ندى من التهاني من داخل الوطن وخارجه بما لا يقاس. رفاق بالخارج بعثوا بهدايا عربون اعتبار وتقدير للأبوين. كيف لا؟ ولهما، حورية ومحسن، من مقامات الحب الرفيعة والحظوة المائزة في الدخيلات ما يغبطان عليه.
وبزنقة وادي سبو، وبالبناية رقم 30، وبالضبط في الشقة رقم 12 من الطابق الأول، استوى محسن وحورية. انتقلا من حي الليمون إلى حي أكدال. لم ينتقلا لوحدهما ليوفرا شروطاً أفضل لوليدتهما ندى، إنما انتقلنا نحن الآخرون معهما. أينما يوليان دفة مركبهما نولي من جهتنا صوبه. نفترش إثرهما على الدوام. نتبعهما أينما حلا وانتقلا. الفترات من الصيف التي كان يمضيها محسن وحورية بالدار البيضاء جعلتنا ننتقل، نحن أيضاً، إلى حي فرانس فيل، إن لم أخطئ التعيين، لعقد اجتماعاتنا بإشراف أحمد بنعزوز في أغلب الأحيان أو محمد حميمة برادة أحياناً. هذا ديدننا. وقد نقضي أياماً رفقة الكوبل. ننتظر مغادرة محسن للبنك الشعبي، حيث يشتغل، وننصرف إلى مقاه، ثمّ إلى أغراض حزبية. يعودون إلى الرباط، فنعود.
لم أر حورية يوماً متأففة من إنزالاتنا تلك المبرمجة منها والحاصلة على حين غفلة. ولم أر محسن يشير بإحراج. حسن السوسي وشوقي بنيوب والهجابي، وغيرهم كثير، ائتووا تلك الشقة بأكدال.
واكبت حورية، وإن من بعيد، اجتماعاتنا ولقاءاتنا التي احتضنتها الشقة إياها. كانت تسخو وتجود. وعلى ما كانت عليه الشقة من ضيق فقد كانت بالنسبة للزائرين وللمناضلين بمثابة “خيمة كبيرة” تسع الجميع.
كانت حورية تستقبل بالحضن وبالابتسامة المشرقة الرقراقة. وفي تلك الشقة تعرفت إلى عائلتها، الوالد الحاج والوالدة الحاجة وعلى أخوتها شرفة وأمل وتاج الدين وباقي أفراد العائلة.
العائلة التي آوتني رفقة محسن ذات ليلة باردة من سنة 1979 بفاس بعد ما لم نجد مأوى يستقبلنا عقب سفر ليلي مضن بالدرجة E للقطار القادم من وجدة. وكنا في مهمات حزبية بشرق المغرب، ولما حللنا بفاس صادفنا نطاقاً أمنياً مضروباً على الحي الجامعي ظهر المهراز.
حورية ذات الرأس الحليق، في العادة، لا تخطئها العين. تظل تتنقل بين الرفاق والأصدقاء كما الفراشة إذ تبحث عن رحيق الأزهار والورود هنا وهناك. تفرزها من بين مئات الرؤوس حتى وإن قصر منها الحجم أو انضوى منه الجسد. لكم أحببتها، ولكم سأظل أحبها إلى يوم الدين !
أذكر تلك الخرجات المشتركة مع حورية ومحسن بحي أكدال مساء. أذكر تلك القعدات بمقاهي الحي وبمقهى السفراء. أذكر تلك الوجوه العديدة من مناضلي مختلف الحساسيات السياسية اليسارية التي صادفتها في ضيافتهما. ذانكما الزوجين لم يكونا زوجين فحسب، وإنما هما توأمين. وتلك الشقة لم تكن شقة فقط، قدر ما كانت دار ضيافة، ولا أبالغ في شيء. حقاً لا أبالغ.
وكذلك كان الحال حينما انتقلا إلى حي السلام بسلا، ثم تالياً إلى شارع الجزائر بحي حسان. قلت قبل قليل حيثما انتقلا اقتفينا، نحن ثلة من الرفاق، عقبهما. لا خلاص لهما منا، هيهات (؟!). وشخصياً أدمنتهما بما لا يتصور.
في شقة أكدال لما كان يزايلان يخلفان المفتاح في موضع مصون. يكفي أن تكون، أنت القريب من الكوبل، عارفاً بالجِفْر، حتى تلج وتتصرف إلى غاية عودتهما. بسلا، ومع سعة بالمكان هذه المرة، باتت الشقة مقر اجتماعات ومجالس.
بهذه الشقة تطارحنا مسألة انتقال المنظمة من حركة سرية إلى تنظيم شرعي، وبها تداولنا في التحضير للمؤتمر 17 لأ.و.ط.م. اجتماعات لا حصر لها أشرف عليها عبد الكريم (الفقيد أحمد بنعزوز) واجتماعات جرت لاحقاً بحضور الريفي (محمد الحبيب طالب)…
كانت حورية تنسل إلى غرفة أو تبارح الشقة بعد أن تكون أعدت لنا مشروباً للاستئناس، وتتركنا، نحن الخلية، أو نحن لجنة التحضير للمؤتمر الطلابي، نتطارح ونتناقش ونتجادل ونقلب في المواقف ظهراً لبطن تارة بأصوات خافتة وتارة بأصوات عالية إلى حد ما. يحدث أن نختلف في التقدير لموقف، لكن عندما نحسم، لا يتلكأ أحد منا بالمرة في الانضباط للقرار الجماعي والتنفيذ الخلاق.
كان محسن بيضة جماعتنا نحن الأربعة أفراد الخلية ورأس حربتها. وعندما تجتمع بنا حورية من جديد نكون قد هيأنا لجلسات ود ورفقة. تحول حورية الجلسة إلى لحظات مرح وبهجة بعد أن كانت قبل قليل فقط جلسة جد ورصانة.
وأذكر كيف كان يجيد محسن وحورية استيقاف السيارات بغاية الانتقال إلى الرباط، حورية إلى كلية الحقوق ومحسن إلى مقر قضاء فترة الخدمة المدنية بالجوار. وحيثما كان يفلحان هما في استيقاف السيارات بنوع من اليسر كنت أنا، من جهتي، أخفق في هذه العملية. وكان علي أن أقطع المسافة من حي السلام بسلا إلى الرباط/ المركز مشياً على القدمين، فلا أبلغ وَكْدي حتى يكون التعب قد أصاب مني المقتل. فعلت ذلك ذهاباً وإياباً. ومراراً فعلت. كنت أصر في أن أقضي الليلة رفقتهما بسلا على أن أقضيها بالرباط. ألم أقل إنني كنت أدمنت الكوبل. وفي عودتي إلى سلا مساء، تعرف حورية، من حدسها وفراستها، أنني ربما أكتفيت النهار كله بالبُلغة، ولعله بأقلها، فكانت تنبري إلى إعداد ما يكفيني حاجتي.
حزّ في نفسي كثيراً رحيلهما من شارع الجزائر بالرباط إلى حي فرانس فيل (!) بالدار البيضاء. وسأفتقد حورية ومحسن بالرباط. تركا فراغاً لا يعوض. بعد مغادرة محسن لمدة الحبس التي قضاها بسجن لعلو غداة إضراب الطلبة الوطني سنة 1981 حزم المتاع ورحل بأسرته الصغيرة نحو العاصمة الاقتصادية.
نظم حفلاً للرفاق وبارح. ثم لم تعد خليتنا إلى سابق عهدها. سار كل عضو من أعضاء الخلية إلى مصيره المقرر، وبذلك طوي كتاب وفتحت درفتي كتاب آخر. أنا وشوقي التحقنا بالقنيطرة للإقامة. أنا بدايةً بحكم الانتماء والعائلة والتنظيم، ثم شوقي لاحقاً. بموجب قرار للمنظمة التحقت متفرغاً للعمل الحزبي الوطني، وانظم شوقي إلى هيئة المحامين بالمدينة، بينما انخرط السوسي بجريدة أنوال. وتقلد محسن مسؤولية بإدارة “الاتحاد العام لمقاولات المغرب” بالبيضاء على عهد عبد الرحيم الحجوجي. وهكذا انفرط عقد خليتنا.
اعتقل محسن من جديد سنة 1984 ضمن حملة اعتقالات شملت مناضلي اليسار. هو هذا ثالث حبس له منذ السبعينات. وسيكون علينا أن نزور الرجل بالسجن المدني عين البرجة رفقة حورية كما كنا نزوره رفقتها بسجن لعلو. من أين كانت هذه المرأة تأتي بذلك المقدار الهائل من الصبر والجلد وهي تجد نفسها، بين الحين والآخر، عرضة حرمان من زوجها ورفيقها ووالد ابنتها؟ ثم وهي تخوض رفقة عائلات المعتقلين كفاحات إطلاق سراحهم؟ كيف كانت تتحمل كل هذا الضغط اليومي والقاسي إن لم تكن امرأة استثنائية؛ امرأة قدت من فولاذ؟ زرت محسن وكاتبته إلى السجن، ورد علي برسالة لا زلت أحتفظ بها ضمن وثائقي (أنظر رفقته).
كتب محسن، بتاريخ 21 فبراير 1986، من السجن المدني عين البرجة بالدار البيضاء، حيث كان يقضي مسجونيته، رسالة جواب عن رسالة مني إليه، أقتطف منها ما يلي:
«رفيقي، من اهتماماتي وانشغالاتي فإنني أحاول التقدم في تحضير رسالة الدبلوم في موضوع LE PATRONAT MAROCAIN لكن قلة المراجع وغياب زيارة الأستاذ وعدا عزوفي عن القيام بدراسة نظرية محضة معلقة في الهواء كلها عوامل تجعل البحث يسير ببطئ شديد. أما في هذه الأيام فإنني مشدود بكل جوارحي وكياني إلى قرب مقدم مولودي الجديد، الشيء الذي يجعل الأمور شاقة شيئا ما لكن أليس قدرنا أن نتحمل كل كل التورطات وأن نواجه كل الصعاب ونكابر؟»
أي نعم، كان محسن يترقب من داخل الحبس بلهفة وشغف ازدياد مولوده “شادي”. كان مأخوذاً بأحوال حورية وبنمو الجنين في تلك الظروف الخاصة. ولنتصور معاناة امرأة حامل وهي تتابع نمو الجنين وتسعى بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ على شروط أفضل لاستقباله، ثم وهي في غدو نحو السجن ورواح منه والغاية الإبقاء على الجسر مع الزوج على كل المستويات الإنسانية والروحية والتموينية.
والحال، أنه ليست هي المرة الأولى التي تعيش حورية فيها هذه التجربة. لكأن القدر حتّم عليها أن تعيش اختباراً لا يني يتكرر. امرأة من نار كانت. في كل تجربة لا تكف حورية عن مواصلة تحمل المعاناة وآثارها الظاهرة والدفينة. تتحمل وتكابر. كانت حورية محبة للحياة. بل هي، بالأحكم، درس في الحياة. وهل ثمة أكثر من المرأة تشبثاً بالحياة وهي التي تمنح من روحها وجسدها الحياة «في ذاتها» و«لذاتها»؟
زرت محسن على إثر خروجه من مسجونيته الثالثة في شقة بعمارة في الدار البيضاء. زرت الثنائي لأكثر من مرة. زياراتي تلك كانت محض زيارات رفقة وصداقة.
لاعبت شادي فيما هو لا يزال في سنواته الأولى. لاعبته مثلما كنت ألاعب ندى من قبله. الفرص التي سنحت لي لمجالسة حورية قليلة قياساً لمثيلاتها بالرباط. لكن حورية احتفطت لي بلازمة باتت تضاحكني بها وتمازح كلما أسعفها الوقت.
في وقت سابق من أواخر السبعينات، وإذ كنا نتجاذب الحديث، حورية ومحسن وأنا، حول اختياراتي «التاكتيكية» في التقرب من الأنثى، طرحت علي السؤال: قل لي يا سي محمد ما هو تاكتيكك في إغراء الأنثى؟ وجدت على أسلة لساني رداً فريداً، فقلت: «الأمر سهل يا حورية، سأختار موضع مرور الراجلين في طرقات ذات كثافة مراكب ومارة. وهناك بالضبط، عند عمود ضوء أحمر، سأصفن وأَحرُن. سأبقى كذلك إلى حين حضور شابة جميلة ترغب في قطع الطريق بينما هي مترددة وخائفة من زحمة السابلة والسيارات. وهنا تحديداً سأتحرك، وانطلق صوبها كالسهم عارضأ خدماتي في مساعدتها على اجتياز ممر الراجلين، ويكفيني تلك المسافة بين الضفتين لكي أفاتحها وأناغيها وأنتزع موعداً منها.. ههه، وذلكم هو تاكتيكي المحكم وتلكم هي خطتي الضاربة».
عندما أنهيت ردي أطلقت حورية ضحكة عالية لا يزال صادها يداعب طبلة أذني. ولم تكن لتضحك وحدها، وهل كان محسن ليفوت المناسبة لكي يطلق قهقته المتميزة؟ كانا متواطئين. الزواج الذي لا يتخلله الحب والتواطؤ يصعب أن يصمد. هذا درس علّماني إياه. هي سمفونية موسيقى تجمع بين آلاتهما المتنوعة والمختلفة لتفرز لحناً متفرداً وأبدياً. هكذا كنت أنظر إلى هذا الزوج/ الثناني الصديق والرفيق.
بالرباط، كانت حورية وهي الزوجة والأم تؤدي أدوراها كمناضلة بحركة 23 مارس بقدر من الحرص. وأذكر أنها كانت منتمية إلى إطار تنظيمي بكلية الحقوق يجمع سي أحمد الخمسي والفقيد حسن العدناني. شاركت في التحضير للمؤتمر 16 لأ.و.ط. سنة 1979، وساهمت في المؤتمر 17 سنة 1981. ولما صدرت نشرة «الشباب الديمقراطي» قدمت خدمات للحفاظ على عمليات تهيىء المواد وطبعها. وترجمت مواداً (أنظر رفقته).
لم يجمعني وقتها إطار تنظيمي ما ونحن في حال من العمل الحزبي شبه السري، أو شبه العلني؛ وضع «وضع توليري» كما نعته مقرر الشرعية الصادر عن ل.م لحركة 23 مارس. بيد أنني كنت أعلم أنها مؤطرة تنظيمياً مع كل الصعوبات الحاصلة التي تواجهها في الجمع بين إكراهات البيت والأمومة والدراسة. وحافطت حورية على النفس ذاته داخل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي. ولم تبخل في أنجاز مهام ب«اتحاد العمل النسائي»..
انصرم زمن لم ألتق بها، ولا سيما عقب التحاقي بالمعهد العالي للصحافة بالرباط أواخر الثمانينات وابتعادي عن العمل الحزبي. ظللت أتابع أخبار حورية تارة عبر الصديقين العزيزين مريم بنخويا وأنس الحسناوي وتارة بواسطة العزيزين سعاد سميرس وأحمد شوقي بنيوب. تابعت معاناتها إبان الفترة الصحية الحرجة التي مر بها محسن أواسط التسعينات.
وهاتفتها لمرات مشجعاً ومعضداً. ثم جاء يوم سبت 21 مارس 2015 وإذا بي وجها لوجه مع حورية ومحسن في حفل نظم بمنطقة الهرهورة حضره ثلة من مناضلي اليسار السبعيني وبخاصة منهم مناضلي حركة 23 مارس.
وها الشيب راح يفشو منا في شعر الرؤوس أو في ما فضل منه. وها حورية جدة. تحاضنا وتباوسنا وتبادلنا أخبارنا، ولم نأخذ لنا صورة للتوثيق وللذكرى (!؟) كما لو كنا ما زلنا نبقي على طابع زمن ولى إذ كنا نمنع على نفسنا أخذ صور مشتركة. الصورة الوحيدة التي تجمعني بحورية هي تلك الصورة الجماعية التي ألتقطت لنا بمراكش على إثر عودة العزيز محمد حميمة برادة إلى أهله ورفاقه (أنظر رفقته). وما خلا إطلالات بمواقع التواصل الاجتماعي صارت بغياباتنا رياح المشاغل والوقت إلى أن أتاني نبأ رحيلها صباح يوم 30 مارس 2022.
كنت أسوق السيارة لما بلغني خبر نعي عزيزتنا حورية. أوقفت السيارة جانباً وشددت بيدي معاً على رأسي مشدوهاً لا أصدق. بكيت، بكيت بحرقة. أبكيتني يا حورية وأنا الذي كنت أزعم أنك كائناً بلورياً عابراً للزمان مثلما يحدث مع كائنات الخيمياء القديمة! من يصدق رحيلك حورية، بالله عليكم من يصدق؟
لروحك الطاهرة العزيزة حورية السكينة والسلام والرحمات، ولرفيق عمرك، رفقينا العزيز سي محسن، ولندى وشادي وباقي أفراد العائلة الشريف حوات وعيوش، جميل الصبر والسلوان، ولكل من رافقك وصادقك وتعرف إليك، ولرفيقاتي العزيزات ولرفاقي الأعزاء أقول: عزاؤنا واحد.
محمد الهجابي، القنيطرة في 7 أبريل 2022
—————–
شخصية “جنات” من الشخوص التي أثثت روايتي «بيضة العقر» (2015). هذه الشخصية التخييلية والورقية تتقاسم مع الفقيدة حورية الشريف حوات صفات وشمائل وتخالفها. كذلك أحسب. لكن حورية ليست بجنات، لا مشاحة في الأمر. ثمة بالتأكيد ما جعل صندوق دماغي يستوحي من الفقيدة حورية عناصر كثيرة بها تشكلت شخصية “جنات” بين يدي. والحال، هل يمكن للروائي أن يؤسس شخوص أعماله بمنأى عن أفراد تخللوا، بهذا القدر أوذاك، تجربة حياته؟
في الآتي مقتطفات من الرواية:
-«بمدينة الرباط، في شقة من مبانيها ذات الميسم الكولونيالي، هي بالأحكم شقة عزاب (جرسونيير) في زنقة وادي سبو بحي أكدال، كانت تعقد أغلب الاجتماعات. الشقة رقم 12 آلت إلى هشام بعد انتقاله من شارع الغزالي. وبها يقطن صحبة زوجته جنات. المدخل يفضي إلى سلم لولبي من إسمنت معلق في الهواء. في الطابق الثاني تصطف شقق عزاب من غرفة يتيمة وهُول وحمام ومطبخ. نافذة الغرقة عريضة، تعمس زجاجها ستارة بلون غامق، وتفتح على بالكون وسيع. قد يجيء المكان في غياب هشام وزوجته. يرتقي درج السلم، بينما نظره يتفرج على المساحات في الأسفل التي تشغلها أسر في دور هي أقرب إلى مستودعات سيارات صغيرة الحجم. المفتاح في موضع متفق عليه. عوده هشام على إخفائه في ركن بعينه. يمد اليد إلى الموضع فيجد المفتاح في الانتظار. في دافن الشقة يخلع الحذاء ويتشبح على كنبة إلى حين. وقد يتجاسر فيصنع عجة بيض وبقدنوس وبصل، ويطعم نفسه. ثمّ يغسل الماعون وينعس. وفقط، عندما يسمع طرقات على اللوح، يقفز إلى الباب. » ص.37
-«في فيلا شارع الغزالي رأى الهلالي سعيدة. رآها برفقة مناضلة مراكشية شقراء تدعى ربيعة. هذه من كلية الحقوق، فيما سعيدة طالبة بالمدرسة الوطنية للمعادن وفق ما أخبر به هشام. سعيدة تقل طولاً عن ربيعة بفتر واحد على الأكثر. كانت سعيدة جميلة وذات سمت مهيب. وفهم عقب ذلك أنها هي التي توسطت لكي يحصل هشام على إيجار المرأب بأقل الأثمان. سعيدة تنحدر من مدينة فاس وصديقة طفولة لجنات زوجة هشام. ثمّ إنه صادف سعيدة مراراً بشقة زنقة سبو.» ص.49
– «أخلى هشام زنقة سبو لفائدة الهواري. ونقلت اجتماعاتهم إلى جناح من العمارات الجديدة في حي السلام بسلا حيث بات هشام وجنات يقطنان. أنى ينتقل هشام يتبعونه. هشام بالدار البيضاء يكونون بالدار البيضاء بحي فرانس فيل، زنقة 9 جوييه. هشام بالرباط هم أيضاً بالرباط بحي أكدال، زنقة سبو. هشام بسلا صاروا يقطعون الكيلومترات نحو حي السلام إذاً. هذه الكيلومترات مشاها الهلالي لكم مرة على القدمين. » صص. 50-51
-« في المساء، رافق الهلالي هشاماً وجنات إلى سينما Agdalبزنقة تانسيفت (rue d’Aunis). مروا بمقهى الأبطال حيث كرعوا كؤوس قهوة، ثمّ بمقهى قريبة من كنيسة Notre dame des Anges، الكنسية التي تفتح على شارع دادس (جان دارك سابقاً)، فطاب لهشام لعب جولات بلياردو. لكن هشاماً لا يفارق العصا والطابات سوى بقرع من جنات. لا يجيد اللعب تماماً، بيد أن اللعبة تستهويه بما لا يقاس. ولا يهم الفيلم الذي سيعرض بالقاعة، تقول جنات. المهم هو أن نخرج إلى السينما، تؤكد. » ص.70
-« يوافقها الهلالي الرأي، ويضيف بأنه لم يترك قاعة بالرباط تقريباً لم يلجها، ويروح يستعرض الأسماء، فيما جنات تجيب: هذه دخلتها، هذه لا. سينما روايال (زنفة بارتو)؟ نعم. رونيسانس وكوليزي ومارينيان (شارع محمد الخامس)؟ ترد جنات: رونيسانس. فوكس (زنقة مولاي إسماعيل، أي زنقة هنري بوب سالفاً)؟ لا. أ.ب.س بشارع عبد الكريم الخطابي (شارع ماري في سابقاً)؟ لا. ستار (شارع لعلو) وموريطانيا (زنقة الجزاء) والزهراء (ديور الجامع)؟ الزهراء فقط. والحمراء (أو العنبراء) والصحراء (قصر البحر)؟ لا. والمنصور (حي يعقوب المنصور)، والكواكب (شارع الكفاح)؟ لا… وهلمجراً. يعلق الهلالي على إجابات جنات بأنها لا بأس بها. ثمّ تسأل البنت الهلالي: كيف تجد يا رجل متسعاً من الوقت لارتياد كل هذه القاعات؟ القاعات هذه سكن الولد إلى ظلمتها وتجلى شاشاتها. يسمع السينما فيفور الدم في عروقه، وتنفتح مسامه. ولقد ذكر أن أول قاعة ولجها بالرباط هي سينما الزهوة بحي مابيلا-التقدم. كيف ينساها، وقد تفرج بها سنة 1975، صحبة رفيق سابق له، في شريط Le papillon (1974). كل أصناف الأفلام تداولها الولد. حدث له أن دخل ثلاث قاعات في اليوم الواحد. هذا هوس، تعقب جنات ضاحكة. » صص.70-71
-«جنات قصيرة القامة. قصيرة ونحيفة. تعجبها رأسها الحليقة بالكامل، فلا تكل من تمليسها بيدها اليمنى، بينما يدها اليسرى تقبض على السيجارة. تمسك العقب بالسبّابة والإبهام إلى الأسفل، بينما الفوامة الداخنة إلى الخلف. وتهمّم رأسها وتفركها كما لو تطارد الهبرية. لكن أشد ما يحب الهلالي فيها هو قهقهتها المدوية. تجاري هشاماً في الكثير من قفشاته كما لو تواطآ أبد الدهر على أخذ الأمور بهزل ومرح. فيلم هذا المساء: اليام اليام للمخرج المغربي أحمد المعنوني.» ص.71
-«قال الهواري إن هشاماً سافر إلى فاس في عقب جنات وابنتهما ريما. ولعلّه يرجع غداً. قد يترك البنت وجنات عند الوالدين ويعود بمفرده. هشام لم يخبر بتفاصيل. إنما ذكر أنه سيعود إلى شارع الجزائر يوم الاثنين، لكنه لم يعيّن وقتاً. » ص.177
-«الهلالي يقول لا أحد أكثر حرصاً على المواعيد مثل هشام. لكن هشاماً تخلف عن الموعد الذي ضربه للهواري بالسفراء. لم يتخالفا، ولم يتفاوتا. نسي هشام الموعد بالمرة. سها عنه بأشياء غير ذات بال، ولم يأته. هذا هو الذي حصل. وهذا النسيان أجّل اعتقاله ليومين كاملين. سمع خبر اعتقال الهواري وراح ينتظر دوره غير هيّاب. استعد للحبس. وعندما ولج شقته بشارع الجزائر كان يعلم أنهم في الجوار. ولم يبطئوا عليه كثيراً، فجاءوه إثر ساعة بالضبط. ذكر هشام أنه لما دقوا درفة الباب كان في كامل لباسه ممدداً على السرير. لم تكن جنات حاضرة. كانت بفاس. كان وحده يترقب بين اللحظة والأخرى طرقتهم المتميزة للباب، ولربما رفسهم الفارز للوح إلى الداخل، بينما هم يشهرون فوهة السلاح في كل الاتجاهات. فتح الباب وأخذوه. بعض المارة رأوا عملية اعتقال هشام. وقفوا يتفرجون على فيلم سينما. ثمّ لاحقوا بعيون مدهوشة سيارة سوداء بينما هي تتوارى في اتجاه الشارع الإداري. »ص.285
-«يستوحش الهلالي لاجتماعات خليته لأواخر السبعينات. ولا يدري كيف يمكن أن تستعيد الخلية لمّتها وتألقها. لعلها تجربة كانت وانقضت. هي فترة حصلت في حياتهم، وهي الساعة تبتعد، وقطعاً لن تعود. أيامٌ حسانٌ هي، ولن تتكرر، كأنما هي بيضة العَقْر. الهواري زايل الحبس والتحق بهيئة تحرير الجريدة.
التحناوتي يتطلع إلى الالتحاق كمتمرن بمكتب محام مكرس في محور القنيطرة_الدار البيضاء. هشام لم يعد بالرباط. نظم حفل وداع بشارع الجزائر. رفاق حضروا وشربوا وتمززوا وتعشوا وتنادروا. ورحل هشام مع جنات ووليدتهما إلى الدار البيضاء. الهلالي لا زال يبحث عن نفسه. لا أحد من هؤلاء كان يتصور أن لحظة تدعى بلحظة الافتراق ستحين يوماً. وها قد حانت. دقت ساعة الوداع. » ص.294
«الصورة الفوتوغرافية الوحيدة التي احتضنتهم أخذت لهم بمراكش بمناسبة زفاف. أخذوها رفقة خالد. غير هذه الصورة، لا يملكون دليلاً مادياً على اجتماعهم. حتى هذا الدليل لا يتوفر عليه أغلبهم. الهلالي لا يمتلكه. يتذكر أمر الصورة. لكن لا يمتلك الدليل عليه. ذاكرته تحتفظ بصورة لأربعتهم صحبة خالد. الاثنان مقعيان، والآخرون وقوف. خالد بين الواقفين. ثابتون في مكان، وخلفهم جدار نصفه، إلا قليلاً، من فسيفساء أندلسي. وكذلك بلاط الفناء مزلج. القسم من الجدار الخالي من الفسيفساء مجير بالأبيض. ويتصورون كما لو كانوا فريق رياضة. كان ذلك في فناء منزل رحيب من منازل مراكش التقليدية، منزل من طراز موريسكي. يتصورون مبتسمين أمام عدسة أحدهم. لقطة مجموع أخذت لهم، وتشملهم إلى جانب الجدار وقسم من البلاط. من يكون المصور؟ كانت إذاً هذه صورتهم، الصورة الوحيدة، قبل أن يتفرقوا. هذه حجة دامغة على أنهم كانوا يتعارفون. وكانوا فريق عمل، وقفير نحل. وخلية إن شئتم. تلك الصورة اليتيمة، بأشخاصها المبتسمين وبمتمماتها الزخرفية الفارقة، سكنت ذاكرة الهلالي وخياله. ولربما سكنتهما إلى آخر العمر. لكن الأولاد أيضاً كبروا. وهذه حقيقة أخرى. وهل من الممكن تجاهل حقيقتهم الجديدة هذه؟» ص.295