نيوريوك تايمز من أفغانستان للديوان الملكي… رحلة خاشقجي من تأييد النظام إلى المعارضة
كتبَ ديفيد دي كيركباتريك، مراسل دولي لصحيفة «نيويورك تايمز»، وكان رئيسًا لمكتبها في القاهرة أثناء ثورة يناير ، كتبَ مقالًا مشتركًا مع زميله بين هوبارد، رئيس مكتب الصحيفة في بيروت، يتحدثان فيه عن مسيرة خاشقجي المهنيّة من السعودية إلى أفغانستان، ثم الجزائر، ومنها إلى لندن، مع تفاصيل مثيرة ومهمة عن حياته ومهنته، وحادثة مقتله.
فريق عمل: ساسة بوست
رجل يهزُّ المساحة بين واشنطن والرياض
يبدأ الكاتبان مقالهما بسفر خاشقجي إلى واشنطن في الخريف الماضي تاركًا خلفه في الوطن قائمةً طويلة من الأخبار السيئة. مُنع خاشقجي من الكتابة حتى في «تويتر» بأمر من ولي العهد الجديد، بعدَ نجاحٍ مهنيّ مُستشارًا للعائلة الحاكمة، وناطقًا غير رسميّ باسمها. شُطب عاموده في الجريدة السعوديّة «جريدة العرب»، وتفكّك زواجه الأوّل، ومُنع أقاربه من السفر كضغطٍ عليه ليوقف نقده لحكام المملكة.
يُتابع الكاتبان بذكر موجة الاعتقالات التي طالت أصدقاء سعوديين لخاشقجي وُضعوا خلف القبضان، والتي بدأت بعدَ وصوله إلى الولايات المتحدة؛ فاتخذَ قراره الصعب: العودة الآن – أو في أي وقت لاحق – خطرٌ كبير. ومن ثمَّ – في الولايات المتحدة – أعاد خاشقجي تشكيل نفسه كناقدٍ يكتبُ في صحيفة «واشنطن بوست»، واعتقدَ أنه وجد الأمان في الغرب، ولكن كما هو واضح – يقول الكاتبان – لم تكن الحماية الغربيّة واسعةً بما فيه الكفاية.
اختفى خاشقجي بعد دخوله القنصلية السعودية في 2 أكتوبر في إسطنبول حيثُ أراد أخذ أوراقٍ لزواجه. وصرّح بعد ذلك مسؤولون أتراك بأن فريقًا من العملاء السعوديين قتلوه وقطّعوه.
أنكرت السلطات السعودية أن تكون قد آذت خاشقجي، وحتى الآن – بعد مرور قرابة أسبوعين على اختفائه – فشلوا في تقديم دليل بأنه غادر القنصليّة، ولم تُقدم تقريرًا موثوقًا لما حصل له.
يقولُ الكاتبان: «إن غيابه شَق صدعًا بين واشنطن والسعوديّة، الحليفة العربيّة الكبرى لإدارة ترامب». ودمّرت – في نظر الكاتبين – سمعة ولي العهد محمد بن سلمان الحاكم الفعليّ للعرش السعودي ذي الـ33 عامًا، والذي يبدو أنه تجاوز الحدود كثيرًا هذه المرة حتى بالنسبة لأشد داعميه في الغرب.
تفرضُ احتمالية أن الأمير الصغير أمرَ بقتل مُعارضٍ تحديًا للرئيس ترامب، وقد تُقلب علاقات من دافئة إلى سامّة. ويتابع الكاتبان بأن حادثة خاشقجي قد تقنع الحكومات والشركات بأن الأمير مستبدٌ عنيف بعد أن أغفلت حملته العسكرية المُدمرة في اليمن، واختطافه لرئيس الوزراء اللبناني، وموجات الاعتقالات للعلماء ورجال الأعمال والأمراء. وأنّه لن يوقفه شيء عن النيل من أعدائه.
ألقى اختفاء خاشقجي بشراسة ضوءًا على ولي العهد، ولكنه جذب الاهتمام – أيضًا – إلى تعاطف خاشقجي المُركّب في مسيرته المهنية، بموازنته بين ما يبدو أنه استحسانٌ داخليّ للديمقراطية والإسلام السياسي، وبينَ خدمته الطويلة للأسرة الحاكمة.
ويذكر الكاتبان أن انجذاب خاشقجي للإسلام السياسي خلق رابطًا شخصيًا له مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يُطالب السعودية الآن بكشف مصير صديقه.
كانت فكرة المنفى الذاتيّ/ الاختياريّ ضربةً لخاشقجي ذي الستين عامًا، الذي عملَ كمُراسل ومُعلق ومُحرر ليصبح – وفقًا للكاتبَين – أحد أشهر شخصيات المملكة. جذبَ اهتمامًا دوليًا في البداية بمقابلته لأسامة بن لادن الشاب، ولاحقًا عُرف كمُقرّب من الملوك والأمراء.
أعطته مهنته شبكة علاقات متينة فوق المعتاد، ويبدو أن الرجل الاجتماعيّ الطويل يعرفُ أيّ شخصٍ ربطه بالسعودية عملٌ في العقود الثلاثة الماضية.
يُكمل الكاتبان بقولهما: إن للإقامة في واشنطن ميزاتها. فقد دعاه العام الماضي صديقه لعيد الشكر وشاركَ صورته في العشاء مع مليون و700 ألف متابع على تويتر وأمامه طبقٍ من لحم الديك الروميّ وخضار اليام. وعندما حانَ دوره ليذكر سبب شكره قال: «لأنني بِتُّ حرًا، وأستطيع أن أكتب بحريّة».
ولعُ خاشقجي بالكتابة بحريّة وتنظيمه للضغط من الخارج نحو الإصلاح السياسيّ، يذكر الكاتبان أن هذا وفقًا لعشرات ممن عرفوا خاشقجي، وعرفوا علاقته بالقيادة السعوديّة، كانَ سببًا في دخوله مسار التصادم مع ولي العهد.
حكمت المملكة لوقت طويل بإجماع كبار الأمراء، ولكن ولي العهد محمّد ألغى هذا النظام جاعلًا قوته الكبيرة الخاصّة دون مُراجعة من أحد. وإذا اتُخذ قرار إسكات «خائن» فغالبًا سيكون صادرًا عن ولي العهد.
أفغانستان والجزائر.. الجهاديّون والإخوان المسلمون
كان أول صعود للشهرة لخاشقجي بمعرفته الشخصية لأسامة بن لادن. قضى خاشقجي أيامًا في جدّة حيثُ عاشَ بن لادن، ومثلهُ أيضًا، خاشقجي من عائلة بارزة خدمت الأسرة المالكة. جدّه كان طبيبًا عالج ملك السعودية الأوّل، وعمّه عدنان خاشقجي تاجرُ أسلحة مشهور، ولو أنّ جمال لم ينتفع من ثروة عمّه.
درسَ خاشقجي في جامعة ولاية إنديانا الأمريكيّة، وعادَ للسعودية ليعمل مراسلًا لصحيفة انقليزيّة. وينقلُ الكاتبان عن عددٌ من أصدقائه أنّه انضم مبكرًا لجماعة الإخوان المسلمين. ورغمَ توقفه لاحقًا عن حضور اجتماعات الإخوان ظلّ خاشقجي على اتصال بالخطاب المُحافظ والإسلاميّ وأحيانًا حتى الخطاب المُعادي للغرب، الذي يستخدمه – وفقًا للكاتبَين – أو يخفيه حسبَ موقف الشخص الذي يسعى للتعرّف عليه.
يصفه زملاؤه في الصحيفة بأنه ودودٌ وعميق الفكر ومتديّن، ويذكرُ شاهد رضا بيرني، مُحرر هندي عمل معه، أنّه كان يؤمّ صلاة الجماعة كثيرًا من الأحيان في غرفة الأخبار.
يُتابع الكاتبان بأنّ خاشقجي رحّب بالجهاد – المدعوم سعوديًا وأمريكيًا من «سي آي إيه» – ضدّ الاتحاد السوفيتي في أفغانستان ككثير من السعوديين في الثمانينات. وعندما دُعي من قبل شاب سعودي آخر، ابن لادن، ليُشاهد الأحداث بنفسه كصحافي، اقتنصَ خاشقجي الفرصة فورًا، ارتدى في أفغانستان اللباس المحليّ، ويظهرُ في صورةٍ له حاملًا البندقية، ولا يظهرُ أنه حارب فعلًا هناك.
يقتبسُ الكاتبان عن توماس هيغهامر باحث نرويجيّ قابل خاشقجي ليتحدث عن الفترة التي قضاها في أفغانستان، فيقول: إنّ خاشقجي «كان هناك صحافيًا في المقام الأوّل، وبالطبع كشخصٍ مُتضامن مع الجهاد الأفغاني، كما كان معظم الصحافيّين العرب في ذلك الوقت، وكثيرٌ من الغربيين»، وأكّد زملاء خاشقجي ذلك.
يقول بيرني الذي يعملُ الآن محررًا لصحيفة أخبار في الهند: إنّه «من الكذب قولُ إنّ جمال كانَ متطرفًا من نوعٍ ما». ولاحقَ خاشقجي فشل الحرب في وضع أفغانستان على المسار السليم، وكذلك لاحقه تحوّل ابن لادن لاحقًا إلى الإرهاب. ومُجددًا ينقلُ الكاتبان عن صديقٍ سعوديٍ لخاقشجي – تحدّث بشرط أن يظلّ مجهولًا خوفًا من الأذى – أنّ خاشقجي “خابت آماله أنه وبعد كل الكفاح لم يتوحّد الأفغان”.
ويذكرُ الكاتبان هنا أن رحلات خاشقجي إلى أفغانستان وعلاقته مع الأمير تركي الفيصل الذي ترّأس المخابرات السعودية حينها، شكّكت بعض أصدقاء خاشقجي بأنه كان يتجسّسُ لصالح السعوديّة.
وبعدَ قتل قوات الكوماندوز الأمريكيّة لابن لادن لاحقًا بعد أعوام في باكستان عامَ 2011، نعاه خاشقجي ونعى الحال الذي وصل إليه.
صحافيٌّ في القصر الملكيّ
يتابع الكاتبان سرد المسيرة المهنية لخاشقجي، الذي عملَ بعد ذلك مراسلًا من الجزائر ودخلَ الكويت أثناء حرب الخليج. تسلّق سُلَّم عالم الإعلام في المملكة حيثُ يملك الأمراء الصُحف ويُراقب المحتوى وتُدفن الفضائح التي انخرطَ فيها أبناء الأسرة المالكة.
انتقد خاشقجي بعد أحداث سبتمبر نظريات المؤامرة التي شاعت في العالم العربي –على حدّ وصف الكاتبين – كاتبًا أنّ الطائرات المختطفة “هاجمت الإسلام أيضًا كدين. وهاجمت قيم التسامح والتعايش التي يدعو إليها”.
عُيّن رئيسًا لتحرير صحيفة الوطن السعوديّة عام 2003، وأُقيل في أقلّ من شهرين لمقالٍ يلوم فيه عالمًا إسلاميًا معروفًا على تعاليم استُخدمت لتبرير الهجوم على غير المسلمين. وأُعيد تعيينه لاحقًا في 2007، وكانت ولايته الثانية أطولَ مدةً.
وعن علاقته الشخصية بأفراد الأسرة المالكة ينقلُ الكاتبان أنّ خاشقجي سافرَ مع الملك عبد الله، ونما قريبًا من المُستثمر الملياردير، الأمير الوليد بن طلال، الذي اعتقله ولي العهد محمد بن سلمان لاحقًا. أما الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات، فقد وظّف خاشقجي مستشارًا عندما عملَ سفيرًا في بريطانيا والولايات المتحدة. وفي تلك الفترة اشترى شقةً في ماكلاين، في ولاية فيرجينيا في الولايات المُتحدة، حيثُ عاشَ بعد خروجه من المملكة.
إصلاحيٌّ في الداخل ثوريّ في الخارج
أمّا عن ميله الشخصي نحو نمط الإسلام السياسيّ لدى الإخوان المسلمين والديمقراطية الانتخابيّة ينقلُ الكاتبان عن كثير من أصدقائه أنه أخفى ذلك خلال مهنته في خدمة الملكيّة.
وعندما حطّم انقلاب الجزائر العسكريّ في 1992 الأمل بفوز حزب إسلاميّ سياسيّ بالسيطرة على البرلمان هناك، تعاون خاشقجي مع صديق إسلاميّ لإطلاق منظمة في لندن تُدعى “أصدقاء الديمقراطية في الجزائر”.
ويذكر صديقه عزام التميمي، الذي عملَ في الواجهة لإخفاء دور خاشقجي، أن المجموعة نشرت إعلانات في الصحف البريطانية قبل الانتخابات النيابيّة تقول: «عندما تذهب لتُدلي بصوتك تذكّر أن هذه حريةٌ مُنع عنها كثيرون حول العالم، ومنهم الجزائريّون». وبتخطيه للخمسين ظلّت علاقته بالإخوان المسلمين غامضةً. قال كثيرٌ من الإخوان هذا الأسبوع إنهم شعروا دائمًا أنّه واحدٌ منهم، أما أصدقاؤه العلمانيّون – وفقًا للكاتبَين – لا يُصدّقون ذلك.
لم يدعُ خاشقجي لأكثر من إصلاح تدريجي للملكية السعودية ودعمَ التدخل العسكريّ لردّ ما اعتبره السعوديّون نفوذًا إيرانيًا في البحرين واليمن، ولكنه كان متحمسًا للهبّات التي انطلقت في أرجاء العالم العربي عامَ 2011.
خيّبت حراكات الربيع العربي آمال خاشقجي كما حصلَ مع الجهاد الأفغاني، بعد أن انهارت نحو العنف – في نظرِ الكاتبين – ومع استعمال السعودية والإمارات لثرواتهما لسحق المعارضة ودعم الاستبداد. وينقلان عن سيغورد نويباور، محلّل شؤون الشرق الأوسط في واشنطن الذي عرف خاشقجي من قبل أنّه: “لم يُعجبه قَط استخدام السعودية لسياستها لتسريع حملة القمع في المنطقة”.
تلاشى تقبّل المملكة حتى لأدنى نقد بعد اعتلاء الملك سلمان للعرش عام 2015، ومنحه قوةً هائلةً لابنه محمد ولي العهد المعروف بالاختصار غير الرسمي لحروفه الأولى: “مبس”.
أعلن الأمير الصغير برنامجًا لتنويع الاقتصاد وتخفيف القيود الاجتماعيّة بما في ذلك ضمان حق المرأة في قيادة السيارات.
رحّب خاشقجي بهذه التحركات وانتقد الطريقة السلطويّة التي مارس فيها ولي العهد سلطته. وعندما انتقد خاشقجي الرئيس ترامب بعد انتخابه، منعهُ المسؤولون السعوديّون من الكلام خوفًا من أن يضرَّ بعلاقتهم بالإدارة الجديدة.
سعى ولي العهد وراءَ مُنتقديه بكل ما لديه من قوة مانعًا إياهم من السفر ومعتقلًا بعضهم. ترك خاشقجي البلاد قبل عام عند اعتقال عشرات من أصدقائه ومئات من السعوديين البارزين في فندق ريتز كارلتون، بعضهم ما زال مُعتقلًا حتى الآن ومن بينهم – على الأقل – اثنان من أبناء الملوك السابقين.
بدأ خاشقجي بالكتابة في واشنطن بوست مُقارنًا ولي العهد برئيس روسيا فلاديمير بوتين. ينقلُ الكاتبان أن هذا وفقًا لأصدقاء خاشقجي، وضعهُ على القائمة السوداء لوليّ العهد. يقول عزام التميمي: “دفعَ محمد بن سلمان ملايين الدولارات ليخلق صورة معينة عنه، وكان جمال خاشقجي يُدمّرها كاملةً فقط ببعض الكلمات. لا بد أن ولي العهد غاضب من ذلك”.
ويعود الكاتبان ليقولا: لكن خاشقجي لم يتوقف. كان يخطط ليبدأ موقعًا ينشرُ تقاريرًا مترجمة عن اقتصاد العالم العربي، بما في ذلك السعودية؛ إذ شعرَ أن العديد من الناس لم يفهموا حجم الفساد أو محدودية مستقبل الثروة النفطية.
وكان يُؤسس أيضًا منظمة داعمةً للديمقراطية تُدعى «الديمقراطية للعالم العربيّ الآن»، وعندما اختفى خاشقجي كان يُحاول أن يؤمّن لها تمويلًا، وأن يؤسس مجلس إدارةٍ لها، وفقًا لما ينقله الكاتبان عن أصدقاء لخاشقجي.
وفي كلمةٍ له في أبريل بعد تسلّمه جائزةً من مركزٍ قريبٍ من الإسلاميين، مركز دراسات الإسلام والديمقراطية، قال خاشقجي: إنّ الديمقراطية تتعرضُ لهجوم في العالم العربي من الإسلاميين «الراديكاليين»، والاستبداديين والنخب التي تخشى من أن المشاركة العامة في السياسة قد تُسبّب الفوضى. وقالَ إن تقاسم السلطة هو الطريق الوحيد لإيقاف الحروب الأهلية ولضمان حكمٍ أفضل.
وليّ العهد «يستثمر مئات المليارات من الدولارات في مشاريع مستقبلية، ويفعلُ ذلك بناء على قدرته على الحكم وقدرات دائرة صغيرةٍ من المستشارين»، ثمّ يسأل خاشقجي:”هل هذا كافٍ؟ لا، هذا ليس كافيًا”.
يذكرُ الكاتبان أن خاشقجي أخبر أصدقاءه أنه منذ انتقاله إلى واشنطن تواصل معه ممثلون لولي العهد بشكل مستمر طالبينَ منه تخفيف حدّة نقده ودَعَوه للعودة إلى البلاد.
ولكنه كان يبني حياةً جديدة. قرّر هو والباحثة التركيّة خديجة جنكيز أن يتزوجوا ويفتحوا بيتهم في إسطنبول.
ماجي ميتشيل سيليم، صديقةٌ قديمة لخاشقجي كانت قلقةً عليه، وطلبت منه أن يُراسلها في أيّ وقت يدخلُ فيه السفارة السعودية في واشنطن. وتذكّرت: “ضحكَ عليّ وقال: أوه! ماجي، ماجي، أنت مُضحكة”.
المرجع: For Khashoggi, a Tangled Mix of Royal Service and Islamist Sympathies
نيوريوك تايمز
المصدر والمترجم: الموقع الإعلامي ساسة بوست