هل يمكن التأسيس لدور إصلاحي للدين في فضاء عام ليبرالي؟
تشكّل المقاربة التي قدمها مجموعة من المفكرين، كما عرضت في كتاب “قوة الدين في المجال العام”، طريقاً ثالثاً جديداً، يجعل الدين مورداً إصلاحياً، بدل أن يكون عائقاً أمام العقلانية والحداثة (الدولة الدينية)، أو أزمة اجتماعية وسياسية (العلمانية)، وهناك أيضاً دراسات وأفكار كثيرة تطرح اليوم بقوة، من أجل أن تبادر الليبرالية السياسية، كما يدعو هابرماس إلى استبصارات أخلاقية والتزامات جديدة، وهي تعترف بالدين بوصفه مصدراً ممكناً للتجديد، وفي الوقت نفسه؛ يجب ألا يتخذ مثل هذا التجديد شكل لجوء مباشر للعقائد الدينية، أو رؤى العالم الشمولية بطرق تغلق الجدل العام.
إنّ المجال العام، كما يقول هابرماس، عالم من الجدل العقلاني النقدي تخضع فيه الأمور المتعلقة بالخير العام للنظر، وهو أيضاً فضاء تشكيل ثقافي، لا يكون الجدل الممارسة المهمة الوحيدة فيه، هنالك أيضاً الإبداع والطقس، والاحتفاء والاعتراف، وكلّها مهمّة، وهو يشمل التعبير الناطق المتبادل بين الحساسيات العميقة وحالات الفهم الواضحة، ويشمل المحاولة التي تستعين أحياناً بنداءات بنيوية، طلباً للفت الانتباه لجعل الطريقة التي نفكر بها ونمارس الفعل مستجيبة لأعمق قيمنا والتزاماتنا الأخلاقية.
في الصورة التي رسمها كارل شميت للدولة الحديثة، تستمر السلطة السياسية بالحصول على شرعيتها من الإيمان بسلطة إله مقتدر.
بحسب هابرماس؛ فإنّ المجال العام الذي بدأ بالظهور في القرن الثامن عشر، تطوّر بوصفه فضاء اجتماعياً متميزاً عن الدلة والاقتصاد والعائلة، فيه يمكن للأفراد أن يتواصلوا فيما بينهم، كمواطنين مستقلين، من أجل التداول في الصالح العام.
ويقول هابرماس: إنّ الممارسات والمنظورات الدينية تبقى تمثل مصادر أساسية للقيم التي تمد الحياة بأخلاقيات المواطنة متعددة الثقافات، وتفرض التضامن والاحترام المتبادل معاً، لكن لا بدّ من ترجمتها إلى لغة علمانية ومتاحة للجميع، ولا تقع مسؤولية هذه المهمة على المواطنين المتدينين فحسب، لكن على جميع المشاركين في الاستخدام العام للعقل.
هناك ما يدعو للقلق من الدوغمائية، يقول كورنيل ويست، ليست الدينية فقط، لكن أيضاً الدوغمائية والتسلط التي تلبس لبوس العلمانية، وتلفق الحوار وتنهي الجدل. إنّ الممارسات الديمقراطية (الحوار والجدل في الخطاب العام) ملتبسة وتعوزها النزاهة، والتحكم العلماني يمكن أن يكون متعجرفاً وقمعياً، كما هو التحكم الديني.
لقد تمكنت السياسة من النجاح في ظروف اقتصاد السوق الذي تسيطر عليه السياسة، لكنّها قدرة تواجه تحديات في ظل الرأسمالية المعولمة، وأصبحت السياسة، بوصفها وسيلة تقرير المصير ديمقراطياً، مستحيلة بقدر ما هي فائضة عن الحاجة، وتحت ضغوط المقتضيات الاقتصادية التي تغلب على نحو متصاعد على المجالات الخاصة للحياة؛ ينسحب الأفراد، أكثر فأكثر، فزعين إلى فقاعة مصالحهم الخاصة، وتضمر الرغبة في المشاركة في الفعل الجماعي، والوعي بأنّ المواطنين يمكن لهم تشكيل الظروف الاجتماعية لحياتهم، على نحو تعاوني، بواسطة الفعل التضامني.
لا بد من ترجمة الممارسات الدينية التي تمثل مصادر أساسية للقيم وتمدّ الحياة بأخلاقيات المواطنة إلى لغة علمانية
والحال؛ أنّ الخوف من أن تصبح الديمقراطية نموذجاً عفا عليه الزمن، هو فقط ما يمنح اليوم مفهوم “السياسي” العتيق فرصة البقاء، كما تواجه الفلسفة تحدياً في استمرار قدرتها على معالجة النظرية السياسية ومشكلة النظام السياسي، ويبدو أنّ “السياسي” لم يعد موضوعاً فلسفياً إلى جانب “السياسة” و”السياسات”، وهذا يقود إلى سؤال: هل نحن قادرون على منح مفهوم “السياسي” الملتبس معنى عقلانياً؟ السياسي بمعنى ذلك الحقل الرمزي الذي شكلت فيه الحضارات الأولى صورة لأنفسها.
من وجهة النظر التاريخية؛ يعيدنا “السياسي” إلى أصول المجتمعات التي تنظمها الدولة، مثل الإمبراطوريات القديمة في بلاد الرافدين وسوريا ومصر، التي تم فيها تحويل الاندماج الاجتماعي من بنية القرابة إلى الشكل الهرمي للبيروقراطيات الملكية، وقد نجم عن هذه التركيبة المعقدة من القانون والقوة السياسية مطلب وظيفي جديد، هو إضفاء الشرعية على السلطة السياسية، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بتأسيس صلة مقنعة بين القانون والسياسة من جهة، والدين من جهة أخرى.
يشير الفيلسوف الألماني، كارل ياسبرز، إلى ظهور الأفكار المحورية أو الفكر الناموسي في العالم، في الفترة بين 800 – 200 ق.م، تعبيراً عن التقدم الإدراكي للعالم، الذي مكّن الأنبياء والحكماء والكهنة من التعالي على أحداث العالم، بما فيها العمليات السياسية، وعلى تبنّي موقف مستقل نحوها، ومنذ ذلك الحين صار الحكام السياسيون عرضة للنقد أيضاً، لم يعد الناس ينظرون إلى الحاكم بوصفه تجلياً للإله، بل ممثله البشري فحسب.
يستوجب التمكين الديمقراطي سلطة دولة علمانية قادرة على التعامل مع كلّ الجماعات الدينية
وتعرّض هذا المفهوم أيضاً للتحدي؛ بدأ ذلك بالصراع بين الحكام والبابوات في العصور الوسطى، وبدأت بواكير الحداثة تتخذ شكل النظام السياسي الاستبدادي على طريقة هوبز، ثم ديمقراطية جماهيرية متسلطة، ثم الليبرالية كتطبيق للعدالة، كما صاغها جون رولز، الذي تساءل: هل ما يزال بإمكاننا إعطاء “السياسي” ذي الصبغة الدينية معنى عقلانياً في ظروف الديمقراطية الليبرالية الراهنة؟
في الصورة التي رسمها كارل شميت للدولة الحديثة في بواكيرها، تستمر السلطة السياسية في الحصول على شرعيتها من الإيمان بسلطة إله مقتدر، وحتى الملامح العقلانية لجهاز الدولة الحديثة، تؤكد الطبيعة الواعية لشكل من أشكال الاندماج الاجتماعي يحققه التدخل السياسي، وقد حدثت تطورات باتجاه تحييد “السياسي” في بواكير الحداثة، داخل إطار الدولة السيادية، والمواطنون حققوا الاستقلال الاقتصادي، وأزيحوا إلى الميادين الخاصة، وتطورات الصراعات الدينية في نهاية المطاف إلى الحريات الدينية وحرية التعبير.
لم يكن الانقسام الطائفي وحقيقة التعددية هما فقط ما استوجب سلطة دولة علمانية قادرة على التعامل مع دعاوى كلّ الجماعات الدينية بحياد، لكن أيضاً؛ إنّ التمكين الديمقراطي جعل شرعية الدولة مستقلة عن سلطة متعالية فاعلة فيما وراء المجتمع.
المصدر: حفريات